» تقارير
الشيخ محمد حبيب المقداد.. الأقصى من الكلام الأقصى من الأحكام «1»
2013-06-11 - 6:06 ص
] المقداد: 96 سنة جميعها أوسمة على صدري.. محال ترهبني سجونكم أو تحني لي هامة
] سمعت من يقول «جاء الشيخ» ثم فجأة توقفوا عن تعذيبي.. قال لي إنه صقر آل خليفة وأنه مبعوث الملك
] وجهاً لوجه أمام نجل الملك: لم يكن بيننا غير ثمّة جدار.. قال لي ثم انهال عليّ باللكم والضرب
"لن ترهبنا سجونكم وما عادت تنحني لنا هامة، لن نركع إلا لله، إننا معارضة لا تتوارى خلف الأستار، نقولها بملء الفم المعارضة تطالب بإصلاح حقيقي في هذا البلد وتطالب بإصلاح دستوري وتقديم الجلادين والمعذبين للقضاء النزيه وتطالب ببرلمان حقيقي ذي سلطة تشريعية ورقابية، فليشهدوا هذه السلمية. إننا معارضة ولسنا مخربين ولسنا مساومين ولسنا مداهنين، إننا معارضة تطالب بإصلاحات حقيقية".
الشيخ محمد حبيب المقداد 2010
مرآة البحرين (خاص): يتدفق الناس لمحاضرة الشيخ محمد حبيب المقداد (51 عاماً)، ويتدفق المحظور من الكلام، يداهمه الوقت كما تداهمه عيون المخبرين، لا يواري نقده ولا يواري الأسماء. أن لا تخاف بطش السلطة يعني أنها تخافك. يذهب الشيخ المقداد، وهو إمام المسجد وخطيب المنبر، إلى الأقصى من خطوط التماس، كل الأسماء عنده ممسوسة، ولا خط أحمر إلا خط الشعب.
يخرج من السجن في 23 فبراير/ شباط 2011 إلى منصة دوار اللؤلؤة مباشرة. هناك الجماهير المتلهفة في الانتظار. سيبدو وكأنه أحد مهندسي ثورة 14 فبراير، رغم أنه خرج متأخراً. سيمسك سريعاً بزمام المشاركة في المسيرات ولن يتخلف حتى عن مسيرة قصر الصافرية؛ وسيوجه كلامه إلى الملك مباشرة.
كان حاسمًا حينما أمهل الجيش نصف ساعة ليخلي الدوار قبل يوم واحد من إعلان حالة الطواريء، كان عاريًا إلا من صوته الذي بقي حتى اللحظات الأخيرة مع المعتصمين يمدهم بالقوة.
ستعض السلطة على يدها انتظارًا لساعة الانقضاض على المقداد، ستمزقه، وتعاقب كل من اقترب منه، كل من التقط معه صورة تذكارية أو طبع قبلة على رأسه أو آواه في منزله. ستحرض المعتقلين للزج باسمه في الكثير من القضايا: "قلْ إن الشيخ المقداد هو إلي محرضنكم وبنطلعك براءة".
ستوجه له اتهامات تصل في مجملها إلى17 قضية، وبأحكام تصل قرابة قرن من الزمان. وسط ذلك، يقف ليقول للقاضي مبتسماً: "أنا أعتبـر الـ 96 عاماً، 96 وسامـًا في الوطنـية وحـب الوطــن". ستخفف فيما بعد إلى 45 عامًا. هكذا ذهب الشيخ المقداد إلى الأقصى من الكلام، فذهبوا معه إلى الأقصى من الأحكام.
قصر الصافرية 12 مارس 2011
مسيرة قصر الملك في الصافرية التي دعا إليها شباب 14 فبراير/ شباط، نأت عنها قوى المعارضة السياسية وحثت على عدم التصعيد، لكن جماهير عريضة تلقفتها بمشاركة واسعة، تقدمهم المقداد الذي أمسك مكبر الصوت موجهاً كلامه إلى الملك مباشرة:
"لقد أشرفت على انتهاء دورك وحكمك يا حمد، وما عليك إلا الرحيل. ما عليك إلا أن تسلم مقاليد الأمر طواعية واختيارًا للشعب قبل أن تنزف الدماء وتزهق الأرواح، والنتيجة واحدة، النصر دائمًا وأبدًا للمستضعفين، لحركة الجماهير، حركة الأمة وليس للأنظمة وليس للطواغيت. هذه الرسالة التي يطلقها اليوم هذا الشعب الكريم وهو يطوق القصر، سوف تسمعون نداءه وسوف تسمعون صرخته ماذا يريد هذا الشعب؟". الجماهير تصدح: الشعب يريد اسقاط النظام.
يكمل المقداد: "الرسالة واضحة، هذا ليس مطلب جمعية سياسية أو فئة معينة بل مطلب الجماهير، هذا التطويق لمجاميع الشعب رجالا ونساءً كبارًا وصغارًا يوحي بأنه استفتاء شعبي على شرعية الحاكم هل الشعب يريده أم لا؟ يعلو صراخ الجماهير: الشعب يريد إسقاط النظام". يستطرد: "هذه الرسالة واضحة وعليه أن يقرأها بوضوح في بداية الطريق قبل أن يقع مالا يحمد عقباه والحمد لله رب العالمين".
مسيرة قصر الصافرية |
ينهي تصريحه بما هو أقوى: "إخواني أشد على أيديكم لوحدتكم بترابطكم بتلاحمكم إن شاء الله قريبًا سنحتفل. قد احتفلنا خارج القصر، سنحتفل داخل القصر بإذن الله". كانت تلك الجرأة التي سيدفع ثمنها غالياً في المعتقل.
ناصر بن حمد: بيننا جدار قصر الصافرية
كان من أول من تمت مداهمة بيوتهم بعد إعلان حالة الطوارئ. بقي ضيفًا عند أحد الأصدقاء بعد مداهمة منزله فجر 17 مارس/ آذار 2011 حيث لم يكن متواجدًا آنذاك. وفي فجر الأول من أبريل/ نيسان 2011 تم تطويق قرية مقابة ومداهمة 17 منزلا في القرية وإلقاء القبض عليه في منزل الشاب سعيد شبيب الذي حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة التستر على المقداد مع سيد باقر محمد وأحمد مهدي.
خمسون سيارة أمن مدججة بالسلاح، وعدد يفوق التقدير من الملثمين، يقتحمون المنزل بعد تحطيم أبواب الغرف. وجدوه أخيرًا، ستبدأ أشد الفصول حلكة وسيلقى المقداد في جهنم الانتقام، فقد تجاوز الأقصى من سقف الملك.
يذكر الشيخ المقداد إفادته التي كتبها في سجن جو المركزي والتي ألقاها بصوته في قاعة محكمة الاستئناف العليا بتاريخ 22 مايو/ أيار 2012، أي بعد عام تقريبا من اعتقاله: "جردوني من جميع ملابسي وانهالوا عليّ بالضرب واللكم والصفع بالأيدي والركل بالأرجل، والضرب بالعصي والهراوات التي يحملونها بأيديهم. كنتُ أنزف دماً وكان الأمر مهولاً".
وقال "أثناء التحقيق معي وأنا معصوب العينين، ومكبّل اليدين جاءني (ناصر بن حمد ابن ملك البلاد حمد بن عيسى آل خليفة) وسألني هل تعرفني؟ فقلتُ لا لأني كنت معصوب العينين، فقال لي: أنا الذي لم يفصل بيني وبينك إلا الجدار يوم مسيرة الصافرية، وكرر السؤال: هل عرفتني؟ فقلتُ: لا. لأني لم أكن أتوقع أن يكون «ناصر» من ضمن المعذبين، فقال لي بلسانه: معك الأمير ناصر، وأخذ يحقق معي ويسألني عن الشعارات التي كان الناس يرددونها يوم مسيرة الصافرية، فقلتُ له بعضها، فقال: بعدَ، أكمل، حتى قال لي أريد شعار «يسقط…»، فما إن قلتها، فإذا به ينهال علي ضربًا بعنف على الجانب الأيمن من رأسي وأسقطني على الأرض فرفعوني الذين من حولي، ثم ضربني مرة أخرى، وأسقطني وهكذا انهال علي ضربًا وهم معه، وكلما سقطت على الأرض تمّ رفعي وضربي إلى أن سالت الدماء من كل أنحاء جسمي. هذا وقد انكشف جزء من الغطاء الذي على عيني فرأيتُ ناصر بن حمد بعيني أثناء التعذيب في سجن القلعة".
أمام القاضي وقف المقداد مؤكداً بطلان اعترافاته ورفاقه التي جاءت تحت التعذيب، ومطالباً: "بمحاكمة (ناصر بن حمد آل خليفة) لقيامه بالتعذيب المادي والمعنوي بحقي، والقانون يجب أن يأخذ مجراه على الجميع يا حضرة القاضي".
صقر آل خليفة: اعتذر للملك لتنل الصفح
كان المقداد في سجن القرين عندما قامت مجموعة ملثمة بتقييده وتعصيب عينيه، ثم نقلته بسيارة بعد ضربه وتهديده خارج السجن إلى مكان يعتقد أنه مبنى جهاز الأمن الوطني، تم تهديده بالتعاون مع (الشيخ) وإلا سيتم الاعتداء عليه جنسيًا وتعذيبه حتى الموت. توقفوا عن الضرب حينما سمع بعضهم يقول: جاء الشيخ، جاء الشيخ. أمرهم الأخير بإزالة العصابة عن عينه فرأى شخصًا جالسًا أمام طاولة مستديرة وبدأ حديثه عن أحداث الدوار مع تسجيل بعض الملاحظات، ثم صرَح له: "أنا مبعوث من قبل جلالة الملك، ويشرفني أن أمثله، وأنا اسمي صقر آل خليفة، أوصاني جلالة الملك أن أسألك عن الأحداث التي جرت في الدوار، فهو يريد أن يسمع منك شخصيًا حقيقة الأحداث لا من خلال ملفات التحقيق".
بقى المبعوث يسأل والمقداد يجيب لعدة ساعات. في الأثناء، طلب منه تقديم اعتذار للملك ليصفح ويعفو عنه. رفض المقداد، انفعل صقر وغضب، فأعادوا الشيخ المقداد للسجن بعد تعذيبه. بعد يومين تكرر الأمر بنفس الطريقة مع التعرض لضغط شديد وتهديد بالتحرش الجنسي، والتعذيب، من أجل الاعتذار للملك، أعادوه للسجن مع قرب طلوع الشمس.
في إفادته أمام القاضي حمّل المقداد الملك ما تعرّض له من اعتداء جسدي ونفسي وتحرش جنسي، وقال: " أحمّل المسؤولية رأس الهرم في القيادة السياسية في البلد الذي يرأس السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية الملك حمد بن عيسى آل خليفة".
واستطرد المقداد مخاطباً الملك: "نعم إذا كنت لا تدري ولا تعلم بهذه الانتهاكات والتجاوزات، والفضائح التي كشف عنها تقرير السيد البسيوني، فأنت متهم ومدان بالإهمال والتقصير في حق الشعب، وإن كنت تدري وتعلم فيجب أن تأخذ العدالة مجراها(...) إن رأس الهرم في القيادة السياسية مسئول عن القدح والجرح لكل أبناء الطائفة الشيعية، بسب أئمتهم الاثنى عشر والازدراء بمعتقداتهم الدينية، وسب وشتم الطائفة الشيعية. إن رأس الهرم في القيادة السياسية مسئول عن تعريتنا من ملابسنا، وجعلنا عراة وهتك حرماتنا والبصق في داخل أفواهنا، وعلى وجوهنا، وسحقنا بالأقدام على وجوهنا، ورؤوسنا وسبنا وشتمنا بمختلف الكلمات البذيئة والجارحة. إن رأس الهرم في القيادة السياسية مسئول عما فعله المعذب الجلاد المدعو صقر آل خليفة إذ قال لضحاياه إنه مبعوث من قبل الملك وأنه الممثل الشخصي للملك ومارس تعذيبه لنا باسم الملك، فإذا كان ما ادعاه كذبًا والملك لا علاقة له بالأمر، فكيف يُسمح للجلادين والمعذبين باستغلال اسمه في جرائم التعذيب؟ فنحن الضحايا لازلنا نعتقد صحة مدعاة ما لم يرد تكذيبه".
المادة 66 من قانون العقوبات
يتحدث المقداد عن محاولات اجبار المعتقلين على الشهادة ضده: "لم تكتف السلطة بتعذيبي بل نكلت بأكثر من 50 معتقلاً وأساءت إليهم، وعرضتهم للتعذيب الوحشي الهمجي البربري من أجل أن ينتزع منهم إقرار بأن المحرض لهم هو الشيخ محمد حبيب المقداد وهم على استعداد للإدلاء بشهادتهم أمام القضاء النزيه العادل". هذه التهم أفضت إلى تحميله قضايا ثقيلة، وبعضها مضحكة، مثل قضية «هوزمان» و«لسان المؤذن»، فنال أحكاماً وصلت إلى 96 سنة وستة أشهر، ثم خفضت الى 45 عامًا، لا زالت غير قانونية. كيف؟ لأن المادة 66 من قانون العقوبات تنص على أنه: "إذا وقعت عدة جرائم لغرض واحد وكانت مرتبطة ارتباطًا لا يقبل التجزئة وجب اعتبارها كلها جريمة واحدة والحكم بالعقوبة المقررة لأشدها. وبما أن الحكم المؤبد هو أشد حكم في القضايا جميعها وجب الحكم بـ 25 سنة فقط".
كان ذلك ما حدث بعد 14 فبراير/ شباط 2011، لكن حكاية المقداد لم تبدأ من هنا، واستهدافه كذلك. الحكاية مع المقداد طويلة وقديمة، والثأر الذي يختزنه النظام له قديم، طالما كلامه لا يعرف إلا الذهاب للأقصى، ولا يعترف بالخطوط الحمر. لكن ماذا عن المقداد قبل هذا التاريخ؟ في الحلقة القادمة.