» رأي
الانتصار بالفضيلة
عباس المرشد - 2013-03-24 - 7:14 ص
عباس المرشد*
ربّما كان على النظام البحريني أن يكون أكثر تواضعًا عندما قرّر أن يخوض معركته ضدّ المنتفضين عليه منذ 14 فبراير 2011. فبعد أكثر من عامين، لا يزال يجد نفسه أمام فوّهة الانفجار العظيم دون أن يحرز تقدّمًا في ميزان القوى الداخلي ومعادلات الحسم الخارجية. لا يعني ذلك أنّ نهايةً وشيكةً للنظام قد تقع قريبًا، فمثل هذه النتيجة لا يمكن استشرافها وتحديد مواعيدها، لأنّها تحدث فجأة بعد طول تراكم من العمل المبرمج والعمل العفوي وتداعيات أحداث أكبر من الحدث البحريني. رغم ذلك، فإنّ الحديث عن شواهد نكسةٍ سياسية ونكسةٍ أمنية يعيشها النظام السياسي في البحرين يمتلك من المعقولية ما يمكن اعتباره معطىً مؤثّر في حساب النتائج وترتيب الأوراق السياسية والميدانية.
واحدةٌ من شواهد نكسة النظام هي استعانته المتكرّرة واللهوفة بالموتوريين طائفيًا، والمصابين بمتلازمة مسح الجوق، أو ما يعبّر عنهم في التعبير العامّي بأحفاد أبي لهب. وفحوى ذلك أنّ الشخصية التاريخية، التي توعّدها القرآن الكريم بالعذاب، كانت تقود الحملة الصاخبة ضدّ الدعوة الإسلامية، وهي الدعوة الإصلاحية والثورية، والرافضة لتقاسيم العبودية والاستبداد في المجتمع.
الملامح التي تبدو عليها طبّالة النظام لا تختلف كثيرًا عن ملامح حملة أبي لهب ضدّ الإسلام ودعوته الإصلاحية، فهذه الجماعات ترفض بالمطلق أيّ تغيير في قواعد اللعبة السياسية القائمة على أسس سلطوية، ورأت أنّ المطالبة بالديمقراطية وحق تقرير المصير مروق وخروج على الأعراف والتقاليد التي تربّوا عليها لأكثر من 200 سنة. من جانبٍ آخر، وهو الأكثر ارتباطًا بشخصية أبي لهب وجماعة قريش، هو الحرب الإعلامية، والتشويه، وكيل الاتهامات، واللعب على وتر الانقسام الطائفي، وسهولة الرمي بالعمالة والمأجورية لأنظمة خارجية، وأخيرًا التهديد باحتواء تنظيم القاعدة ليكون شوكةً في الانتصار القادم للديمقراطية ومطالب التغيير. وكلّ هذه الاستراتيجيات الهجومية والدفاعية وجدت رعايةً لها من قبل النظام، ووجدت حمايةً كاملة لكلّ تصرّفاتها، حمايةً ابتدأت بالأمن والمحاسبة، وانتهت بالدين والفتوى.
المسار التاريخي لإنشاء مثل هذه التكوينات المشوّهة يشير بكلّ وضوح لنهاياتها المؤلمة، ليس لأعضائها والمنتمين لها فقط، بل ولرعاتها الأساسيين أيضًا، فقد أولى حكّام الدولة العباسية الاهتمام المكثّف والواسع بالبرامكة، وخصّصوا لهم المدن العسكرية، ومنحوهم الامتيازات السياسية الواسعة، بهدف تقوية أوضاعهم الداخلية والاستعانة بهم في الخصومات السياسية التي يواجهها الحكّام مع شعوبهم، وانتهت حفلات الزار بانقضاض البرامكة على سدّة الحكم، والتفنّن بقتل الحكّام واستبدالهم، ثم انتهت أيضًا بتشريد البرامكة والتنكيل بهم أينما وجدوا. وكذلك كان الحال مع القوّات الإنشكارية، التي رعتها الخلافة العثمانية، وكيف تحوّلت تلك القوّات المرتزقة لشبحٍ هدّد الدولة العثمانية وأرخى سدول الظلام عليها.
وفي التاريخ الحديث كانت الولايات المتّحدة تمثّل الأب الروحي للتنظيمات السلفية الجهادية في أفغانستان، والبقرة الحلوب لمتطلّباتهم العسكرية والحياتية، وها هي الآن تجرّ ويلات الهزيمة من تنظيم القاعدة، الوريث الشرعي للسلفية الجهادية. ومن السهل هنا استنطاق تجربة أحفاد أبي لهب مع النظام، وتحديد مواقع الابتلاء بهم، بعد أن كان الراعي لهم، رغم استمرارية دعمه لهم في حدودٍ أقلّ مما كانت عليه الأوضاع قبل عام. فهذه الجماعات لا تبدي اكتراثًا لمصير الدولة السياسي والاقتصادي في حالة تأمين احتياجاتها المادية والرمزية، وهي جماعة مستعدّة لأن تكون ملكية أكثر من الملك، لدى شعورها بالترنّح وفقدان الامتيازات الممنوحة لها من قبل النظام. في الوقت نفسه، أصبحت هذه الجماعات عبئًا على النظام في مطالبها وفي مواقفها السياسية المحرجة له أمام الرأي العام المحلّي والخارجي، فقبل ذلك كان بإمكان النظام التحدّث عن قاعدة شعبية موالية له، ومستقلّة في توجّهاتها السياسية وخياراتها، إلا أنّ هذه الدوزنة فقدت وجاهتها وأصبحت، بفعل حماقة جماعة أحفاد أبي لهب، عقيمة المردود، وفاقدة المعنى، وباهتة اللون.
مأزق النظام مع هذه الجماعات أنّها تفتقد لقوّة البرامكة، وحصافة الإنكشارية، وصلابة القاعدة، وهو ما يعني إمكانية وضعهم في مصبّ أعشاش الدبابيير الهائجة؛ حيث تستهدف كل ما تراه، لكنّها في المحصلة غير قادرة على إحداث تغيير في الجسد السياسي أو الجسد الاجتماعي.
يقودنا ما تقدّم لإعادة تقييم مصادر القوّة لدى النظام والأخذ بتناقصها مع مرور الايام، فعبر انكشاف جماعة أبي لهب، وتعثّر أداؤها، وخروجها على المتوقّع منها، فقد النظام دعامةً أساسية كان يرتكز عليها لمواجهة مطالب التغيير الديمقراطي بشتّى مستوياته (الإصلاحية/ الثورية)، ويعني هذا، في مستوى تحليل الاستراتيجيات، فقدان النظام لخزّانه الاحتياطي، وسعيه للاستفادة من مصادر قوّته الحقيقية، الممثّلة في الاستقواء بالخارج، وتكثيف السياسات الأمنية، وهو ما يشير لدخول النظام بداية مرحلة استنزاف مصادر قوّته ومصادر بقائه متسيّدًا.
في المقابل، من المهم الانتباه لقوّة الفضيلة الأخلاقية في المسار السياسي، وما تمتلكه من قوّةٍ هائلة قادرة على إلحاق هزائم واضحة ومحقّقة، وهو انتصارٌ يحدث بشكلٍ تراكمي، وبدرجةٍ قد لا تكون ملاحظة مباشرة، لكنّها هي الطريقة الأفضل لمواجهة الاستبداد والطغيان الاجتماعي. لقد حافظت ثورة 14 فبراير على مسارها في الفضيلة السياسية، وهي الآن تجني ثمار ذاك الثبات والصمود المثير للاستغراب.
* كاتب بحريني