» رأي
الحِوار يتطلّب ستة مجانين
عباس المرشد - 2013-01-30 - 8:02 ص
عباس المرشد*
لعلّها المرّة الأولى التي تتفق فيها قوى المعارضة وقوى الموالاة على تبني رفض فكرة الحوار، التي تكررت لحدِّ الإشباع، على ألسِنَة رموز نظام الحُكم، دون أن ترى ما يصدِّقها بالأفعال. طبعًا تختلف مرجعية وأسباب رفض ما يدعو إليه النظام، من ما يسميه باستكمال حوار التوافق الوطني، فالموالاة لا ترى حاجةً لمثل هذا الحوار، وأنّ المطلوب من الحكومة هو مزيد من العنف، والإكراه، والقبضات الحديدية، واستكمال فرض أحكام قضائية مُنجَزة إداريًا بحق المُعتقَلين السياسيين. وهذا لا يتنافى مع إعلان ائتلاف الموالاة، ممثلًا ببعض جمعيات سياسية مُنتفِعة ماليًا وسياسيًا من نظام الحكم، أن تضع ما تُسمّيه شروطًا لبدء حوار التوافق الوطني، وهي شروط يضعها نظام الحكم في كل شاردة وواردة. الغريب هنا أن هذه القوى الموالية خاضت جلسات حوار التوافق مُنفردة، في يوليو 2011، وخرجت بتوصيات ومرئيّات كانت، من وجهة نظرها، إنجازًا واختراقًا سياسيًا، نافست فيه الديمقراطيات العريقة، وسعت هذه القوى للتطبيل والتزمير، وإقامة حفلات الزار، حول نجاح الحوار، واستكمال ما تحتاجه البحرين لـ 100 سنة قادمة.
مثل هذه القوى المُنتفِعة تُدرك جيدًا أنها غير معنيّة أساسًا بالأُطُر الدستورية والقوانين الهيكلية، فكل ما كان يشغلها، وكما عبّر رئيس تجمع الوحدة الوطنية، بأن مطلبهم الأساسي والعصبية الجامعة لرابطتهم مع نظام الحكم هي مسألة الرواتب، والدفعات المالية، وتحسين مواقعهم الإدارية والسياسية في جسد الدولة، وهذا ما يجعل من موقفهم من الحوار موقفًا يدعو للغرابة، التي سرعان ما تنتهي بنهاية أحدث التصريحات الحكومية، وبالتالي فإن المُزايدة والمُناطحة التي تختلقها قوى الموالاة هي مُزايدة ومُناطحة مدفوعة الأجر سياسيًا واقتصاديًا.
استخفاف قوى الموالاة بالحوار يقف من خلفه استهتار نظام الحكم بمسألة حل الأزمة المتفاقمة منذ عقود، ورغبته في ترسيخ طرق حل قائمة على التدليس والمراوغة والتذاكي، ليس على أعضاء المجتمع المحلي فقط، بل وحتى أعضاء المجتمع الدولي، الذي يوجد فيه من يقبل بمثل هذا الاستهتار ويباركه، مُعتبرًا هذا السلوك قمّة الدهاء السياسي. ومن الممكن بسهولة أن تُورَد أدلّة لمواقف كلٍّ من الإدارة الأمريكية والإدارة البريطانية، المُكَمِّلة لموقف نظام الحكم من ضرورة الحوار. فعلى إثر كل دعوة إعلامية ودعاية سياسية يُطلقها نظام الحكم، تتسارع تلك الإدارت لنشر المُباركة، وحثّ الأطراف على الانخراط فيها، وكأنها لا تعلم حقيقة ما ينشره الإعلام الرسمي، وتناقضه مع المُمارسات الفعلية على أرض الواقع.
من المؤكد هنا أن المواقف الداعمة والمُشجّعة لسياسة نظام الحكم في الدعاية والإعلان مربوطة أساسًا بعنصرَي الصفقات العسكرية الضخمة التي تُبرَم مع باقي دول منظومة دول الخليج، وبالحسابات السياسية المُتّصلة بالملف الإيراني والملف الفلسطيني في المنطقة. وهذا ما كشفت عنه المواقف الفرنسية في تعاملها مع الإسلاميين في مالي، وحاجتها لتغطية الدعم المالي من دول المنطقة. وقبلها كانت الإدارة الأمريكية تؤخّر إتمام صفقة الأسلحة مع نظام الحكم في البحرين، بغية تهيئة الرأي العام لقبولها، والتخلص من ضغط منظّمات حقوق الإنسان، علمًا بأن قيمة الصفقة البحرينية/ الأمريكية لا تمثّل سوى قيمة عمولة الصفقات المُبرَمة مع كلٍّ من السعودية والإمارات العربية المتحدة. على هذا الأساس فإن نظام الحكم في البحرين لا يأخذ التصريحات الغربية بخصوص الأزمة في البحرين على محمل الجد، لكونها تصريحات تُستخدَم للاستهلاك الإعلامي، وهي السياسة نفسها التي يتبعها نظام الحكم مع الأزمة في البحرين.
الخيارات الثلاثة السابقة (نظام الحكم/ الموالاة/ الدول الغربية) تمثل جبهة مُتّحِدة ضد خيارات جبهة قوى المعارضة، وضد حقيقة ما يجرى فعليًا على أرض الواقع، وتعكس تضارب مصالح المعارضة مع مصالح النظام وحلفائه من الموالاة والغرب.
طبعًا في الموقف الغربي، فإن المسألة الطائفية هي الأكثر حضورًا وتأثيرًا، إذ لا تزال الدوائر الغريبة تتوجّس من صعودٍ شيعي جديد في المنطقة، بعد الصعود الإيراني في 1979، والصعود العراقي في 2003، والصعود اللبناني في 2006، وهي لا تزال غير قادرة على رسم استراتيجيات تعامل مختلفة مع المكونات الشيعية في المنطقة، وبالتالي فإنّ البقاء في الفلك السنّي، رغم علّاته، ورغم طابعه الاستبدادي، يُمثِّل صمّام الأمان بالنسبة لهم، وبالنسبة لمصالحهم على المدى القريب والمتوسط. فالمسألة، بالنسبة للولايات المتحدة والحكومة البريطانية، ليست تحقيق مبادئ الديمقرطية ونشرها بقدر ما تحتكم تلك السياسيات لفرزٍ طائفي بغيض، راسخ تاريخيًا، في تعامل البريطانيين مع شؤون المنطقة، منذ 1923 على الأقل، عندما كتب المُعتَمَد البريطاني للملك سعود بن عبد العزيز، مُطَمْئِنًا إياه، بأن الإصلاحات التي تعتزم بريطانيا تطبيقها في البحرين سوف تكفل تفوق العنصر السني، ولن تسمح بالتمدد الشيعي خارج البيروقرطية المقرَّر تنفيذها.
المعارضة، المتقدمة سياسيًا، كانت أعلنت موقفها السياسي، ليس من الحوار فقط، بل ومن النظام نفسه، معُتبرةً إياه فاقدًا للشرعية، وغير قابلٍ للبقاء، وأن الأصلح هو الالتجاء لحق تقرير المصير، كأحد أفضل آليات التوافق الديمقراطي، نظرًا لما يُمثّله مبدأ حق تقرير المصير من مرجعية دولية، وما يمتلكه من قدرة على تقديم حسمٍ نهائي لأغلب القضايا المُختَلف حولها، وعلى رأسها مسألة الحق في اختيار الناس لنظامهم السياسي، وحق تشكيلهم لحكومة منتخبة تعبر عنهم وتمثلهم. لذا فهذه المعارضة المتقدمة غير معنية بحوار مع نظام الحكم، إلا أن يكون حوارًا يُفضي لتحقيق مطلب تقرير المصير.
إن ما يعتبره البعض تطرّفًا في رؤية المعارضة، المتقدمة، حول الحوار، يستند لمعطياتٍ تؤكّد صوابية تلك الرؤية، وحتمية الأخذ بها كخارطة طريق قادرة على إخراج البلاد من مجموع أزماتها المتفاقمة، وهو موقفٌ عبّرت عنه مبادرة الناشط الحقوقي عبد الهادي الخواجة، التي أطلقها من سجنه منتصف يناير 2012، من حيث مطالبته برقابة دولية على تعهّدات النظام، وإجباره على تنفيذ التوصيات الصادرة بحقّه من قبل المجتمع الدولي. وهذا يتصل كثيرًا مع بيان القيادي، الأستاذ حسن مشميع، الذي صرّح من سجنه أيضًا، بأن الحوار المعلن عنه ما هو إلا خدعة، ومحاولة لإجهاض رؤية المعارضة المتقدمة.
في المقابل، فإن موقف المعارضة، الإصلاحية، لا يتقدم كثيرًا، رغم وضوح مطالبه، المُمثَّلة في إقرار مبدأ تدوال السلطة، واعتباره مخرجًا سياسيًا ملائمًا، ومتفِقًا مع تداعيات الحراك السياسي الجديد المتصاعد في أكثر من بلدٍ عربي، مثل الأردن، والمغرب، والكويت. لذا فهي تدخل معاركها السياسية مع النظام بسقفٍ مُنخفَضٍ أساسًا عن سقف المعارضة المتقدمة، وهي أيضًا تقبل بالتعامل مع طرق الدعاية والإعلان، التي يطلقها نظام الحكم، دون أن تلتفت إلى أنها في كل مرة تخفض جزءاً من مطالبها، دون أن تشعر بذلك، أو إنها تقسّم أوراقها لصراع فوق الطاولة وصراع تحت الطاولة، الأمر الذي يسمح لها بمجال مناورة متعدد الأبعاد لكنه يُفقِدها الثقة والمصداقية لدى قطاعٍ عريض من جماهيرها.
خلاصة موقف المعارضة الرسمية من دعوة الحوار هو الذهاب لجلسات الحوار وتعرية الدعاية الإعلامية والعلاقات العامة التي يستهدفها، وهي مُحقّة في ذلك، ولكن شريطة ثباتها على هذه الفكرة، ودون محاولة التذاكي على حلفائها، أو من يقف في الجبهة نفسها.
خلاصة الموقف أنّ الوضع المقبل لن يحمل جديدًا، وبالتالي فإن الرد يجب أن يكون على قدر العرض الذي يعرضه نظام الحكم، وهو عرض فصّلته وزيرة شؤون الإعلام بقولها أن الحكومة ليست طرفًا في الحوار، ويُفهم من حديثها أن الحكومة ستشارك فعلًا في الحوار، باعتبارها طرفًا، ولكن عبر شخصيات معروفة، هي وزير العدل، ووزيرة شؤون الإعلام، ورئيس مجلس النواب، في حين يُتاح لقوى الموالاة إحضار الأغلبية المطلوبة، لتمرير أي صيغة من الصيغ، وهذا يتطلّب من المعارضة الإصلاحية أن تعلن رفضها لهذه المحاصصة المفرطة في الابتذال أولًا، وإذا ما رغبت في الدخول فعليها أن تختار من يكون بمستوى ومكانة المقرر جلبهم. ومن هنا، فعلى قوى المعارضة الإصلاحية أن تبحث عن ستة مجانين وفاقدي الإدارك الحسي، كي يدخلوا في حوار يقوده مجانين وفاقدو إدارك. إنها دعوة صريحة جدًا لقوى المعارضة أن تعي ثقلها وقوتها، وأن لا تستجيب لمسالك الحط من وزنها، والوقوع في فخ المظاهر الشكلية، كالوزير الفلاني والرئيس العلّاني، أي أن تكون مواقفها مُتسقة تمامًا مع طبيعة المعروض وحقيقته.
*كاتب من البحرين.