حصاد النيابة: التنازل عن النظام العام .. التنازل عن التحقيق في قضايا تعذيب الأطباء

2013-01-05 - 4:09 م


مرآة البحرين (خاص): في ظلّ تصاعد الأحداث الدّامية التي مرّت بها البحرين بداية العام 2011م؛ أصدر ملك البلاد المرسوم الشّهير المعروف بمرسوم السلامة الوطنية، وبناءً عليه تم إنشاء محاكم السلامة الوطنية. في هذا السّياق، ألقت السلطات القبض على 20 فرداً من العاملين في الحقل الطبي، أغلبهم من الأطباء، وتمّ التحقيق معهم أمام النيابة العسكرية، ومن ثم أحيلوا إلى محاكم السلامة الوطنية، والتي أصدرت أحكاماً بحق أغلبهم بلغت أقصاها 15 عاماُ.

إنها المرة الأولى في تاريخ البحرين التي يتم فيها محاكمة مدنيين أمام محاكم عسكرية، تمّ تشكيلها بغرض معاقبة منْ اعتبرهم النظام قد ساهموا في أحداث فبراير 2011م. ورغم محاولات السلطة إضفاء صبغة مدنية على هذه المحاكم؛ إلا أن القاصي والداني يعرف أنها محاكم عسكرية، وكان الغرض من تشكيلها هو اختلاق طابع الشرعية على ما قامت به السلطات من إجراءات خاطئة، مثل الاعتقال العشوائي للمواطنين،  وتحلية العقاب المقرّر سلفاً بالصّبغة القانونيّة، وبما يسمح للنّظام بالمناورة والهروب من الإدانات، لاسيما وهو يواجه ضغظاً محلياً عالمياً، خصوصاً من الحلفاء الأمريكان والانجليز، والذين وجدوا أنفسهم في حرج شديد أمام سيل الانتهاكات غير المسبوقة، كماً وكيفاً، ما اضطرّهم لإدانة الحكومة، ولو على استحياء.
 
تتراوح المواقف إزاء تشكيل لجنة تقصّي برئاسة الدكتور شريف بسيوني، وهناك منْ يعتبرها خطوة غير مسبوقة، و"شجاعة"، وربما يُقال بأنها "تاريخيّة". بمعزل عن ذلك، فقد باشر السيد بسيوني وفريق عمله المهمّة الموكل بها، ووضع تقريره قبل عام من الآن، ومع التقرير وضع عدة توصيات، وعدت الحكومة بتنفيذها،. ولكن، وبعد مرور أكثر من عام على هذه التوصيات؛ فهل فعلاً تحقق منها شيء؟

بيّن الدكتور بسيوني بأن الاعتقالات كانت عشوائية، وأن النيابة العسكرية باشرت التحقيقات مع المتهمين من الكادر الطبي وغيرهم من المعتقلين السياسيين في غيبة المحامين، ولم تكن النيابة العسكرية تتبع قانوناً معيناً، وأن معظم الاعتقالات حدثت دون أن تستصدر النيابة أذونات بالاعتقال في مخالفاتٍ صارخة لقانون الإجراءات الجنائية، والذي تنص المادة 61 منه " على أنه لا يجوز القبض على أي انسان او حبسه إلا بأمر من السلطات المختصة بذلك قانوناً كما يجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنياً أو معنوياُ".
 
استئناف للحكم وليست إعادة محاكمة
من جانبٍ آخر،  نسبت النيابة العسكرية لمعظم أفراد الكادر الطبي ما يجاوز العشر تهم، لكلّ منهم، وبعد صدور أحكام قاسية بالسجن عليهم من محاكم السلامة الوطنية؛ ظهر علينا الإعلام الرسمي "مهلهلا" بإعادة المحاكمات أمام محاكم مدنية، وكان القصد عبثياً، وموجّهاً للخارج، أما من في الداخل فكانوا يعرفون بأن حقيقة الأمر لا تعدو عن أن تكون استئنافا للحكم أمام محكمة الاستئناف العليا الجنائية " المدنية" ، وليست إعادة محاكمة، كما روّج لها الإعلام الرسمي.
 
لقد حظيت قضية الكادر الطبي باهتمام عالمي، وتابعت معظم الحكومات الغربية هذه المحاكمات، كما تابعتها منظمات مهنية وحقوقية، وأسدل الستار على هذه القضية بعد أن قالت محكمة التمييز كلمتها، لكن هل كان هذا الستار قانونياً؟ وهل المحكمة التي أصدرت الحكم هي محكمة قانون منوط بها تقويم أي عوار يلحق بالقانون؟ هل كانت حقّاً محاكمات عادلة؟ هل كان القضاء مستقلاً وهو يصدر أحكامه؟ وهل تمّ أخذ توصيات السيد بسيوني على محمل الجد في ذلك كلّه؟

لم يجف الحبر الذي كُتبت به توصيات لجنة بسيوني، في الوقت الذي كانت محكمة الاستئناف العليا الجنائية تعقد جلساتها، وبوتيرةٍ سريعة، أي بواقع جلسة كلّ أسبوع تقريباً، في مشهدٍ لم تشهده محاكم البحرين عبر تاريخها. وعمداً، سارعت الخطى، وأصدرت حكمها الذي برّأ مجموعة من المتهمين، لكنه لم يتوان عن إدانة آخرين!

وإذا كنا قد آثرنا عدم الخوض في الحكم الصادر من محاكم السلامة الوطنية كونها محاكم استثنائية؛ فإنه من المهم تسليط الضوء على الحكمين الصادرين من محكمة الاستئناف ومحكمة التمييز على اعتبار انهما صدرا بعد أن وضع السيد بسيوني توصياته.
 
سُلبت النيابة العامة اختصاصها أثناء محاكم السلامة الوطنية، وبعد أن قرّرت السلطة إعادة الاختصاص المسلوب - علماً أنّ هذا الأمر شاهد على عدم استقلالية القضاء – حينها قرّرت النيابة العامة، وأثناء نظر الدعوى أمام محكمة الاستئناف، عدم التعويل على اعترافات المتهمين من الكادر الطبي، ولم تكن تلك البادرة نذير خير، بل لاح في الأفق ما كان يخشاه القانونيون!

لقد أغرق المحامون المحكمة بسيل من الأحكام التي تنصّ صراحة على عدم جواز هذا الأمر قانوناً بالنسبة للمحكمة، وذلك لأنّ المساس بسلامة جسم المتهم؛ هي من النظام العام، وأن كل إجراء من شأنه أن يخالف النظام العام يترتب عليه بطلان مطلق، وأن على المحكمة أن تجري تحقيقاً مستقلاً في إدعاءات التعذيب، وإذا ثبت لديها ذلك؛ فإنها لا تملك خياراً سوى الحكم بالبطلان.

هناك انكشف الخداع! فلم يكن القرار بالتخلي عن اعترافات المتهمين سوى حيلة لغلّ يد القضاء عن التحقيق في ادعاءات التعذيب، وهي أمور تأكّدت بعد صدور الحكم.
 
إذا سقط الكل سقط الجزء
ومن ضمن الأمور التي أثارها المحامون؛ هي مسألة بطلان حكم محكمة السلامة الوطنية، وذلك لثبوت التعذيب، ولبطلان إجراءات التحقيق بسبب عدم دعوة المحامين. والسؤال: فكيف تصدّى حكم محكمة الآستئناف للردّ على هذين الدفعين؟

فيما يتعلّق ببطلان حكم محكمة السلامة الوطنية، لعدم دعوة المحامين أثناء التحقيق، جاء رد المحكمة كالتالي:” أن البين من تحقيقات النيابة العسكرية أنها خلت من ثمة تقرير على نحو ما تقدم، أو أن محاميا تقدم للمحقق وقرر الحضور مع المتهمين، وقد نفى الأخيرين وجود محامي لهم يحضر معهم إجراءات التحقيق ومن ثم فان استجوابهم أمام النيابة العسكرية يكون قد تم صحيحا موافقا للقانون (الحكم ص 27).
     
وهذا الذي أتى عليه الحكم هو من مصائب "تسبيب" الأحكام وتفصيلها، بغرض إصدار حكم إدانة، فلا يفهم كيف استقام القول المنسوب للمتهمين بعدم وجود محامي لهم، مع عدم تعويل المحكمة على اعترافاتهم! فإذا كان الحكم قد استبعد اعترافات المتهمين؛ فان من مدعاة ذلك أن يستبعد قولهم هذا، ذلك لأنه ورد ضمن محاضر التحقيقات التي حوت اعترافاتهم، فإذا سقط الكل سقط الجزء، ولا يجوز للمحكمة أن تنتقي ما يناسبها لإسباغ الشرعية على الإجراءات الباطلة، وإن فعلت فحكمها مشوب بالبطلان، لا محالة.

المتهم والمحامي يعتبران شخصا واحدا
والغريب في الأمر أن المتهمين - وعددهم عشرون - جميعهم نفوا وجود محامين لهم في عدد من الجنايات، بلغت العقوبة فيها - بحسب الحكم الصادر من محكمة السلامة الوطنية - 15 عاما .

الأمر الآخر أن الحكم مبني على مخالفة نص المادة 134 من قانون الإجراءات، ذلك أن نصّ المادة يقول بوجوب دعوة المحامي من قبل النيابة العامة، وليس على المحامي التقرير بالحضور، فالمحامي لا يعلم بالجريمة قبل وقوعها، بل أن المادة نصّت على عدم جواز استجواب المتهم إلا بعد دعوة محاميه، فالدعوة سابقة على إجراء التحقيق. وبلغةٍ مهنيّة، فإنّ المتهم والمحامي يعتبران شخصا واحدا، ودعوة المحامي واجبة ضمانة لحق الدفاع. وإن حضور محام مع المتهم هو مما يتعلق بالنظام العام.

ومن المفيد التنويه إلى أن محكمة النقض المصرية قضت في حكم حديث بأن "عدم دعوة المحامي لحضور التحقيق يبطل الحكم" (طعن رقم 37001 لسنة 77 قضائية صادر في يوم الخميس 4 ربيع الأخر لسنة 1429 هـ الموافق 10 من ابريل سنة 2008. ). ومن المعروف، أنّ النظام القضائي في البحرين، مشتق من النظام المصري، ويكاد يكون منسوخاً منه، وأن الأحكام الصادرة من محكمة النقض المصرية لا يستأنس برأيها فقط، وإنما يُستشهد بها في القضاء البحريني، وتكون ملزمة للأخذ بها.

أما فيما يتعلق بإدعاءات التعذيب، فكما سبق بيانه، فإن على المحكمة واجباً ليس من حقّها التخلي عنه، وهو التحقيق بشكل مستقل في هذه الإدعاءات، فإن هي قعدت عن واجبها؛ فإن حكمها يكون مشوباً يالبطلان.

إن الأصل هو أن تعتمد المحكمة في حكمها على ما تجريه من تحقيق في الدعوى، وللقاضي الجنائي دور إيجابي في  الوصول إلى الحقيقة التي يسعى إلى إدراكها. وقد رسم القانون دور القاضي الجنائي في الدعوى، ووضع الأسس التي يقوم عليها دوره الايجابي في البحث عن الأدلة .

إن مثار النعي المتعلق بالتعذيب ليس في التعويل على الاعترافات من عدمه، بل كان بغرض إبطال الحكم الصادر من محكمة السلامة الوطنية لاستناده على اعترافات كانت وليدة إكراه مادي ومعنوي ثبت بالدليل القاطع انتزاعها من المتهمين عن طريق التعذيب، مما يبطل حكم أول درجة .

ومن الأمور الواضحى، أن المشرع لم يترك الإجراءات المعيبة دون جزاء، والجزاء المقرّر هو بطلان الاعتراف ذاته، وبطلان ما يترتب عليه من آثار تطبيقا لقاعدة " أن كل ما يترتب على باطل فهو باطـل". بل الاعتراف الباطل إذا كان وليد تعذيب كان مرتكبه يتعرض للوقوع تحت طائلة قانون العقوبات .
 
لماذا الاستئناف؟
إن الغرض من استئناف الحكم هو بيان أوجه القصور والأخطاء المتعلقة بتطبيق القانون أمام المحكمة الاستئنافية لتقول قولها فيها، لا أن تلتف عليها! فهذا ليس دور المحكمة، وليست الإدانة غايتها، والغريب في الأمر أن المحكمة اتخذت قرارات في اتجاه التحقيق في وقائع التعذيب، ومن ثم سارت في الدعوى دون أن تنفذ قراراتها.

فقد قررت المحكمة ندب لجنة ثلاثية من وزارة الصحة وجامعة الخليج العربي والطب الشرعي لتوقيع الكشف الطبي على المتهمين، وأجلت الدعوى إلى جلسة 15/3/2012 من أجل أن يحلف أعضاء اللجنة اليمين تمهيدا لأداء المأمورية المناطة بهم، إلا أن الأمر بعد ذلك سار وفق هوى النيابة العامة، فلم يتم تشكيل اللجنة، ولم يتم تنفيذ قرار المحكمة، وتخلّت المحكمة عن واحدة من أهم واجباتها؛ وهي التحقيق في التعذيب، في مخالفةٍ واضحة وضوح الشّمس.

ومن ضمن القرارات التي اتخذتها المحكمة أيضاً؛ ضمّ تقرير خبراء الطب الشرعي التابعين للجنة تقصي الحقائق، وقد ثبت فيه تعرّض المتهمين للتعذيب، ولا يُفهم لماذا تمّ ضمّ هذا التقرير! فهل كان ترضية خواطر؟ إذ لا إشارة له البته في تسبيب الحكم .

لقد ذهب الفقه بعيداً، ومنع المتهم من التنازل عن أيّ إجراء متعلّق بالنظام العام، فما بالنا بالمحكمة التي طلب منها - وعن طريق الجزم - التحقيق في ادعاءات التعذيب!؟
وقد استقر الفقه وأحكام النقض على أن " أي إجراء متعلق بالنظام العام لا يقبل من المتهم التنازل عنه ، فما بالنا بالنيابة ويكون البطلان متعلقا بالنظام العام إذا كان هذا البطلان راجعا إلى مباشرة الاستجواب تحت تأثير ظروف من شانها أن تعيب إرادة المتهم أو تعدمها ". (الإجراءات الجنائية – دكتور محمد زكي ابوعامر – ص 672- 673).

كان على المحكمة من تلقاء نفسها - سواء طلب أطراف الدعوى منها أم لم يطلبوا - أن تتحقق بنفسها في كلّ دليل يتطلبه الفصل في الدعوى، باعتباره دفاعا جوهريا، يسانده دليل وهو تقرير لجنة تقصي الحقائق، ويشهد له الواقع ويسانده ظاهر الحال، وباعتراف النيابة صراحةً وضمناً بوقوع التعذيب على المتهمين، وبدليل تخليها عن الاعترافات المنسوب صدورها إليهم.

إذا كان حكم محكمة السلامة الوطنية قد شابه البطلان؛ فإن حكم محكمة الاستئناف يكون مشوباً بالبطلان أيضا. وعلى ذلك استقرّ قضاء النقض المصري: " إذا بني الحكم على حكم آخر كان الحكم الأخير مفترضا من مفترضات حكمه، فإذا شابه البطلان، امتد أثر البطلان إلى الحكم المؤسس عليه. مثال ذلك الحكم الاستئنافي الصادر بتأييد حكم ابتدائي لأسبابه، متى كان هذا الحكم الأخير باطلا أيا كان سبب البطلان " نقض 11 نوفمبر سنة 1940 مجموعة القواعد – جزء 5 – ص 270- رقم 143.
 
محكمة تحت طوْع السّلطة
إنّ ما سقناه في مناقشة الحكم الصادر من محكمة الاستئناف العليا، ليس سوى  غيض من فيض، ولم نتطرق إلى باقي أوجه العوار التي لحقت بالحكم، فلذلك مجال آخر. لكن ما أردنا  تبيانه هو أن محكمة الاستئناف، ومن بعدها محكمة التمييز، لم تكونا بحاجة إلى فقيه دستوري يشير عليهما بأن ادعاءات التعذيب، من جانب، وعدم دعوة المحامي لحضور التحقيق، من جانبٍ آخر؛ هي من الأمور التي تتعلق بالنظام العام، ويترتب على مخالفتها بطلان الحكم. بهذا الوضوح!

لم تكن الأحكام الصادرة من محكمة الاستئناف أو محكمة التمييز - وهي محكمة قانون - أحكاماً قانونية، وإنما هي أحكام أملتها الإرادة السياسية، فجاءت أحكاماً سياسية بامتياز، والأدهى أن محكمة التمييز، وإذ أيّدت الحكم الصادر من محكمة الآستئناف، تكون قد قنّنت التعذيب، ولم يعد للنصوص القانونية سواءً في الدستور أو في قانون الإجراءات الجنائية، ومعنى ذلك أن المبدأ الذي أرسته محكمة التمييز يُتيح ويبيح للسلطة تعذيب المتهمين! ولا ضير بعد ذلك! لأن النيابة يحقّ لها القول بعدم التعويل على الاعترافات! وهذه من بركات عدم استقلال القضاء، وارتهانه للسّلطة.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus