والد باسم ضيف داخل قاعة المحكمة: العالم كله معكم يا ولدي فلا تبتئسوا «3-4»
2012-12-22 - 9:25 ص
مرآة البحرين (خاص): "أقسم بالله العظيم، أن أراقب مهنتي، وأن أصون حياة الإنسان في جميع أدوارها والأحوال، باذلاً ما في وسعي في استنقاذها من المرض والهلاك والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم وأستر عوراتهم، وأن أكتم أسرارهم وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلاً رعايتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو، وأثابر على طلب العلم أسخّره لنفع الإنسان لا لأذاه، وأن أوقّر من علّمني، وأُعلّم من يصغرني، وأكون أخاً لكل زميلٍ في المهنة الطبية، ومتعاونين على البر والتقوى، وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقية مما يشينها تجاه الله ورسوله والمؤمنين، والله على ما أقول شهيد".
بقَسَم أبقراط، يدخل الطبيب المهنة، بدونه يصبح خارجها. يحاسب الطبيب بقدر ما يفرّغ هذا القَسَم من محتواه، ويكافأ بقدر ما يجعله حيّاً نابضاً فيه. الطبيب وظيفته منح الناس الحياة والأمل وتجنيبهم، قدر الطاقة، الموت والألم. "كان هذا القَسَم هو اختيارنا، حين قرر آخرون اختيار شيء آخر" باسم ضيف.
العالم كلّه معكم..
بدأوا ينادون بأسمائنا، اكتشفنا لاحقاً أن ذلك من أجل تقسيمنا إلى مجموعتين، الجنح والجنايات، نادوا على مجموعتنا، فتح الباب، وأمام قاعةٍ ضخمة، وقفنا مشدوهين، مشينا على امتدادها، كان الحضور خليطاً من الرجال والنساء، القاضي، والشرطة العسكرية، وكانت هناك الوجوه الذاهلة، وسط صمت القاعة بدت أنفاسهم مرتفعة، مرتفعة جداً، أخذت أتفحص الوجوه، نعم، ها أنا أكتشف أحدها، ابنتي زينب، أول الوجوه الحبيبة التي التقتها عيناي، ابتسمت بحذر، هززت رأسي، أردت أن أقول لها إني والدك ذاته لم يتغير، وإنني بخير، بخير فقط.
عدد القاضي الأسماء، كانت العيون ما تزال تبحث بين الوجوه الحاضرة عن الأحبة. أنهى القاضي الجلسة، لم يعرف المتهمون أسباب وجودهم، كما لم يطلع عليها محاموهم، أخرجوهم بعد الجلسة من جديد، تحت أشعة الشمس الحارقة تركوا، كان الوقت يقترب من الظهيرة، جاء أحد العساكر، أخبرهم أن لديهم زيارة، كانت تلك المرة الأولى التي يلتقون فيها بأسرهم بعد انقطاع أشهر.
حين هممت بالخروج أشرت بقبضتي، وقلت بصوت مسموع للجميع: لقد خدمت وطني 25 عاماً، وسأخدمه فيما تبقى من عمري. كان ذلك وسط ذهول الضباط والعسكر. المقابلة لم تتجاوز 7 دقائق، لكنها تركت في داخلي قوة لتحمل ما كان وما سيكون. كلمة أبي بقت ترن فيّ: العالم كله معكم يا ولدي فلا تبتئسوا.
رحمة القرآن..
في صبيحة أحد الأيام، تم استدعاؤنا لعنبر آخر، أنا وأخي غسان فقط. دخلنا على مسئول عرفنا لاحقاً أنه ابراهيم الغيث المفتش العام للسجون، سأل عن تخصصاتنا ومكان عملنا وكانت معاملته جيدة معنا، استفسر أيضاً عما إذا كنا نشكو من أي آلام، استدعى أحد الضباط، أمره بأخذي للعيادة، وأن يقوموا بعمل الفحوصات اللازمة، والعلاج الطبيعي (لحين الإفراج عنا لم يتم عمل الفحوصات المذكورة،) أما العلاج الطبيعي، فقد حصلت عليه بعد شهر ونصف، حين أعدت طلبي مجدداً.
(الغيث) زارنا لاحقاً، بالتحديد بعد الإفراج عن متهمي الجنح، سألنا إن كنا نريد أي شيء، فطلبنا إدخال كتب وأشياء أخرى، قال إن ذلك غير مسموح، لكن لاحقاً سمح لنا بادخال كتابين طبيين، فرفضنا، كنا نريد شيئاً نختاره برغبتنا، وبعيداً عن العمل.
في يونيو وُزعت المصاحف، بعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر على اعتقالنا، كانت تلك من اللحظات المؤثرة، أمسكت أحد المصاحف، قبلته وأخذت أبكي، كان في توزيعه آنذاك رحمةً لنا وعلينا، غيّر من نفسياتنا كثيراً، شعرت حينها أن بين يدي جوهرة، كانت الفرصة مناسبة للبدء في ختم القرآن، بالنظر الى مساحة الفراغ الممتد، كان الوقت يتسع لأكثر من ذلك، لهذا تطوع أحد رفقاء الزنزانة الاستاذ جاسم بإعطائنا دروساً في التجويد، انضم إلى هذا البرنامج الدكتور محمود أصغر والمسعف أمين الأسود وأنا، وكان الآخرون يشاركون ولكن بشكل غير منتظم.
لم أعتقد أبداً أن أتمكن من تجويد القرآن، وخاصة في السجن، لقد اختلف الأمر مذ كنا في عنبر رقم 5، حين كان الاستاذ جاسم يقوم بتعليم بعض المعتقلين أحكام التجويد، كنت أصرخ فيهم، أردد بيأس إنكم فارغون، نحن نقبع في هذا السجن اللعين، ونفسياتنا متعبة، والتجويد أمرٌ صعب جداً، لكن تغير كل ذلك، كنا نتعلم التجويد، لساعتين على مدى ستة أيام في الإسبوع عدا الجمعة، نقضيه في العبادة والصلاة وقراءة القرآن.
بعد أن تمكنا من المباديء الأساسية لعلم التجويد، قرر الأستاذ جاسم أن يمتحنا. الامتحان جزئين: نظري وعملي، الدكتور محمود أصغر الذي تميز بصوته الشجي وقراءته الرائعة استحق المركز الأول، فيما حصلت أنا والأسود على المركز الثاني مكرر. الامتحان النظري أجري على ورق علبة الصابون، واستطعنا من خلال معتقل جنائي آسيوي تهريب قلم رصاص صغير، وأصدر لنا الأستاذ شهادات اتقان التجويد التي كتبها على ورق علب الصابون أيضاً.
التحايل على الفراغ..
كلما طالت إقامتك فيما لا يشبهك، صار خيارك التأقلم، أو الاحتيال عليه لجعله يشبهك قدر الإمكان، وسيكون كل شيء محرّضاً لك على فعل شيء آخر منه "كانت وجبات العشاء توزع في علب فيلين بيضاء اللون. نبيل حميد وأمين الأسود قررا أن يحتفظا بالعلب، لاحقاً قرر حميد أن يستغلها لصناعة لعبة الدومنة، بدا ذلك دافعاً للبحث عما يجعل الفكرة ممكنة. أثناء تجولنا ذات يوم حصلوا على مسمار صدفة، قرروا الاحتفاظ به، استخدموه لتقطيع علب الفلين، وبذات المسمار نقشوا نقاط قطع الدومنة عن طريق الضغط، تلك الحفر ملئت فيما بعد بمعجون الأسنان الملون، وحين حصلنا في عنبر 6 على قلم ملون، استخدمه الدكتور نبيل لتثبيت العلامات.
صنعوا أيضاً لعبة الشطرنج من الأدوات ذاتها، وكنا نحتفظ بكل ما نجده علنا نستفيد منه لاحقاً، ذات يوم وجدنا خيط، فاستغله أحد المعتقلين لتنظيف الشعر الزائد من وجوه الزملاء.
مع الوقت بدأت علاقتنا تصبح جيدة مع الحراس، ورغم أننا كنا نجهل أسماءهم، إلا أن ابتكار أسماء نميزهم بها بدت فكرةً طريفة، كنا نطلق على أحدهم اسم الديك، لان شعره طويل كعرعر الديك، وآخر سنان لأن أسنانه الأمامية طويلة كالشخصية الكارتونية الشهيرة سنان، وآخر اسمه "سرعة" لانه كان يكرر علينا كلمة "سورعة.. سورعة" كلما ذهبنا للحمام".
لم أفقد ثقة مرضاي..
اسوأ تناقضات تلك المرحلة أن يلجأ سجان إلى طبيب خلف القضبان، فيما هو يتهمه في الخارج بخيانة شرف مهنته "أحد الضباط جاءني يوماً قال إن لديه مشكلة بكتفه، طلب أن أفحصه، أخبرته أنه ليس بحاجة لتدخل جراحي. في يومٍ آخر استدعاني أحد الشرطة، قال إنه يريدني لأمر ضروري في فترة الاستراحة، رأيته حينها يعرج، أخذني لغرفة مجاورة، قال إنه سقط بالمنزل، وان ركبته متورمة، سألني إن كان لدي مانع بفحصها، فقلت قطعاً لا، وخلعت حذاءه، وفحصت رجله، ووصفت له العلاج المناسب، جاء بعد ثلاثة أيام، شكرني بشدة، وأخبرني أن الدواء الذي وصفته كان له مفعول السحر.
الشرطي المسئول عن الهاتف أيضاً وصف لي حالة زوجته، ووصفت له علاج، لقد كنت أشعر وهم يطلبون مني فحصهم، أني لم أفقد يوماً ثقة مرضاي، رغم كل الشائعات والاتهامات الباطلة.
الانهيار..
مع الإفراج عن معتقلي الكادر الطبي لقضايا الجنح، ازدادت الأوضاع في عنبر رقم 6 تأزيماً وتعقيداً. فتحت الزنزانة ظهر أحد الأيام، دخل أحد الضباط، نادى: نبيل حميد، أمين الاسود وآخرين. طلب أن يأخذوا جميع حاجياتهم: إفراج. شعرنا بالغبطة لهم، لكن الغصّة علينا. في الليل وقف الباقون متضرعين بالدعاء. بيننا شخص اسمه زهير، سكرتير الجمعية الطبية، كان لبكائه وجعٌ خاص بيننا، ولحرقته أن يستجاب لها، فجأة انفتح الباب، دخل أحد العساكر، نادى اسمه، وطلب أن يحمل أشياءه معه، كان موقفاً مؤثراً للجميع.
يقول الدكتور ضيف:"كانت تلك الليلة والليلة التي تلتها، من أصعب ما واجهنا، انهار اخي غسان، عرفت ذلك من خلال فتحة الباب، رأيتهم يخرجون أخي فاقداً للوعي، أخذت أضرب الباب بقوة، أصرخ طالباً أن يفتحوه، من النافذة الصغيرة سألوني: ماذا تريد؟ قلت: أخي متعب، أريد أن أذهب معه، أن اطمئن عليه، لم يسمحوا لي بذلك، لكنهم سمحوا لي أن أحدثه عبر النافذة الصغيرة، سألته الصبر وأن الفرج قريب، وكان الإفراج عن عدد من الكادر الذين كانوا معتقلين معه بذات الزنزانة سبباً رئيسياً لذاك الانهيار. بعد يوم أو يومين، حين حضر المفتش العام لزيارتنا، طلبنا منه أن نعرف قضايانا، والتفت لأخي غسان وقال له: شكلك مو عاجبني، مريض؟ تعبان؟ اشفيك، بعد أن تحدث غسان، تدخلت أنا وقلت إن أخي متعب نفسياً، وأننا منفصلان في زنزانتين مختلفتين، أريده أن يأتي معي، أو أذهب إليه، فقال: هذا ما تريدان؟ فقلت: نعم. قال: سنرى.
بنجيب لك أخوك..
في ذات اليوم، جاء الضابط، سمعت أصوات ضجيج، فنظرت عبر النافذة، رأيتهم يفتحون باب زنزانة أخي، طلبوا منه أن يحمل حاجياته، ثم فتحوا باب زنزانتي، قال لي الضابط: "يالله خذ أغراضك، بتروح قرين"، لم أكن أعرف ما هو قرين، فقال: "سجن عسكري"، كاد قلبي أن يقع قبل أن يضحك وهو يقول: لا بس خلاص، يالله بنجيب لك أخوك.
مع دخول غسان ضيف، عادت الذكريات تُضخ في روح باسم. القدر الذي جمعهما دائماً: الغرفة نفسها، المدرسة ذاتها، الجامعة نفسها (جامعة الملك سعود بالرياض)، مكان العمل نفسه (مستشفى السلمانية)، أكملا دراستهما وتدريبهما بالمدينة ذاتها (دبلن)، سكنا الشقة نفسها، وحين حضرت زوجتاهما انفصلا في السكن وبقيا في المبنى ذاته، وأصبحا استشاريين في وقت متقارب، افتتحا عيادتيهما الخاصة بالمجمع الطبي نفسه، والوقت نفسه، ابتاعا أراضي سكنية بذات المنطقة، أصبحا جارين يجمع بين منزليهما جدار، "سبحان الله، هكذا تدور السنون، ونعتقل بذات اليوم، نعذب بنفس الطريقة، ويساء لنا جسدياً ونفسياً بالأسلوب ذاته. عدت بشريط الذكريات عميقاً، إلى رحلة الروح للحج معاً، وبعض الأماكن المقدسة، كان فصلنا بعد كل ذاك الالتصاق موجعاً".
مع تدهور صحة غسان ضيف، نفسياً وجسدياً، لاحظ رفاق الزنزانة أن شقيقه يشاطره التعب أيضاً، لكن باسم كان يحتال على الأمر، يكتم تعبه وتوجعه لحال أخيه، يظهر له قوةً مصطنعة، وحين يختلي بنفسه، في دورة المياه تحديداً، ينهار، يبكي، يقول:"كان الأمر موجعاً، موجعاً فقط".
لقاء الثقوب الضيقة..
خلال تلك الزيارة التي لم تتجاوز ربع ساعة، بقي ابني محمود يحدثني بكل براءة عن لعبة التنس التي يعشقها. وعدته أن آخذه لبطولة التنس بالولايات المتحدة الأمريكية ما إن أخرج ويسمح لي بالسفر. لهذا سنسافر قريباً لانفذ وعدي (خلال كتابة هذه السطور كان باسم ضيف يحلق مع ولديه أحمد ومحمود للولايات المتحدة، تنفيذاً لوعده). أما إسراء فقد بقت متماسكة أمام والدها عملاً بكلام والدتها، لكنها ما إن خرجت حتى أجهشت بالبكاء المر: لم احتضن بابا ولم ألمسه. أحمد ذو الـ17 عاماً رفض الذهاب لزيارة والده: أحتفظ لابي بصورة رائعة، قوياً، مهيباً، ولا أريد أن أراه في موقف ضعف. كان يقول لوالدته.
لجنة تقصي الحقائق
تناقلت الأنباء خبر وصول لجنة لتقصي الحقائق، وما كان يدور خارج الزنازين من جدل، هو ذاته ما كان يدور داخلها، البعض قال إنها لجنة لتغطية الجرائم، وآخرون كانوا متفائلين تجاهها، "أول من زارنا من اللجنة القاضي خالد محيي الدين. كانت زنزانتنا هي الأولى، ألقى التحية، واستدعاني وأخي غسان، جلسنا معه، طلب أن نحدثه عن كل شيء، فتحدثنا عن أمورٍ عدة، عن الاعتقال والتعذيب، عن الإساءات اللفظية والجسدية، ولم نتطرق حينها لتهمنا وقضايانا، تكررت الزيارات من اللجنة، وأصبحت العلاقة جيدة بيننا، كانوا دائماً يبثون فينا الأمل، ويؤكدون أننا سنخرج، أحد اعضاء اللجنة أعطاني ذات يوم هاتفه، قال اتصل لأهلك وحدثهم".
مع تكرار زيارات اللجنة، كانت الظروف في السجن تتحسن، أصبحت علاقة السجانين بالمعتقلين جيدة، وتغيرت بعض الأمور الأخرى أيضاً، أصبحت الاتصالات يومية، ولمدة 5-7 دقائق، لاحقاً تم تمديد فترة الزيارة من عشرين دقيقة إلى نصف ساعة، ثم إلى ساعة أو أكثر في الأسابيع الاخيرة، كما تم زيادة عدد الزيارات من واحدة الى اثنتين بالأسبوع.
بسيوني: أنت محظوظ بجلوسك معنا..
"كان من الأيام المميزة في السجن، يوم أن زارنا السيد بسيوني"، هكذا وجد باسم الأمر. يقول:"دخل علينا وسط جمع كبير من الضباط، الذين أخذونا لزنزانة بها كراسي وتلفزيون، جلس معنا السيد بسيوني، لا أستطيع القول عنه سوى أنه مستمع جيد، يجبرك باهتمام أن تنطلق بالكلام، ولعلمنا المسبق بزيارته، قمت شخصياً بكتابة رسالة له، أخبرته أثناء اللقاء أنه محظوظ، رمقني بدهشة، فأعدتها، قلت له أنت محظوظ لأنك تقابلنا، ولسنا وحدنا المحظوظين بلقائك. ربما قمت قبل الآن برئاسة عدة لجان وقضايا معقدة، في ليبيا ويوغسلافيا وغيرهما، ونعرف أنك تعمل بروفيسوراً في أحدث المراكز في شيكاغو، لكنك ما زلت محظوظاً أنك تجلس اليوم أمامنا، إذ لم يحدث في تاريخ البشرية قط أن قام رئيس دولة أو حاكم أو والي باعتقال أطباء واستشاريين لهم ثقلهم لأنهم عالجوا مصابين أثناء الأحداث، كما لم يحدث في تاريخ البشرية أن تعرض هذا الكم من الاستشاريين والجراحين إلى أسوأ أنواع التعذيب والإساءة اللفظية والجسدية وتلفيق كل هذه الأكاذيب والفبركات، وكان ينظر ويستمع لي باهتمام.
قلت لبسيوني إنه الآن يحمل مسئولية تاريخية، فرد عليّ: يا بني أنت حملتني دلوقت مسئولية كبيرة علي. قلت له أمامك الآن طريقان لا ثالث لهما: إما أن تقف مع الحق فتدخل التاريخ، وإما أن تقف مع الظلم وتدخل التاريخ أيضاً لكن من باب آخر، وسيذكر التاريخ حينها، أنك وقفت في المكان المظلم منه، والخيار لك.
عدد من الكادر الطبي أيضاً تحدث، وصفوا بشاعة الانتهاكات الجسدية التي واجهوها، وطرق التعذيب التي تعرضوا لها، وهناك أمور أثارته جداً، من بينها حين أخبره أحد الأطباء كيف أنه أُجبر على أكل برازه، كان تأثره لهذه الحادثة جلياً، وقال: مهما وصلنا من إساءة، لا يمكن أن تصل إلى هذه المرحلة من الانحطاط في الإنسانية. وطلب يومها أن نتحدث بتفصيل تام عن أي إساءة لفظية تعرضنا لها، خاصة تلك المتعلقة بالمعتقد، مثل: يا أولاد المتعة، أنتم الشيعة نجسين، أنتم صفويون، التعدي على الأئمة، ولم يكن أحدنا بحاجة للبحث في الذاكرة ليتأكد، فقد كان كرمهم بتلك الشتائم مبالغاً.
بسيوني يعانق الأطباء..
قبل أن يغادر بسيوني، عانق الأطباء. بدا ذلك مؤثراً جداً، وكان الدكتور نادر ديواني يبكي وهو يحتضنه، أثر فيه الأمر جداً وأثاره، وقد ذكر ذلك في إحدى مقابلاته. مع انتهاء زيارة السيد بسيوني، تغيرت الكثير من الأمور نحو الأفضل، سمحوا للمعتقلين بالجلوس في ذات الغرفة التي قابلوه فيها، كانوا يشاهدون التلفاز على فترتين صباحية ومسائية، لاحقاً فتحت الزنازين على بعضها، وفي بداية شهر رمضان تم فتح الزنازين بشكل متواصل من الساعة الحادية عشر صباحاً وحتى الثالثة فجراً، مع استمرار السماح لهم بالاتصال يومياً لمدة 5-7 دقائق، بعض الحرس كانوا يتعاونون معهم بشكل شخصي، فيسمحون لهم بالاتصال لأكثر من مرة، واستخدام الهاتف العمومي أيضاً، أحياناً لم يكن لديهم ما يقولونه لفرط ما تحدثوا مع ذويهم.
حين فتحت الزنازين على بعضها، عاد ذلك بأثر إيجابي على نفسيات المعتقلين، يقول ضيف:" كنا نلتقي مع الآخرين، نتحدث إليهم، نتشاور، ونستمع لظلاماتهم، طرق اعتقالهم، تعذيبهم، وكان من حسن الحظ وجود أبناء عائلات المنامة العريقة، أبناء بن رجب، المخرق، العريض، الحمد، الصفار، العلوي، القصاب، وآخرين لا يسعني ذكرهم جميعا. ولكوني تربيت في المنامة، وعاشرت العديد من الأصدقاء الذين ينتمون لذات العوائل، فكان لذلك القدرة على إعادتي لمدينة طفولتي. أيضاً بين المعتقلين الأعزاء المتواجدين، السيد علوي أبو غايب، الذي كان دائماً يبهرنا بقصائده العزائية الملحنة، وإلقائه المميز، وتعلمت منه الكثير عن تاريخ عوائل المنامة العريقة، كما تعلمت منه عن أطوار الإلقاء الحسيني، كان يأتي بأبيات لقصائد حسينية معينة ويقوم بإلقائها بعدة أطوار، ولذا كان أول كتاب طلبت من زوجتي إدخاله بعد السماح لنا هو كتاب ملا عطية الجمري.
رمضان يجمعنا..
مع اقتراب رمضان، تأمل المغيبون خلف القضبان أن يطلق سراحهم، بدت الأيام الأولى من الشهر الفضيل ثقيلة، وموجعة، "كانت زوجتي مصرة على إحضار الإفطار كل يوم، وكانت الإدارة تصر على عدم السماح بذلك، لكنهم كانوا يعوضوني عن ذلك بإحضار الأكل أثناء الزيارة، كان ذلك يأخذني للجو العائلي الذي كنت اشتاقه، وأفتقده. كان يحضر للمقابلة والدايّ أيضاً وأخوتي وأعمامي وأخوالي وأبنائهم، احتفلنا ذات يوم بعيد ميلاد ابني محمود، الذي صادف يوماً من أيام رمضان، في تلك الليلة أحضروا الكعك، واحتفلنا معاً، غنينا، وأطفأنا الشموع، وكان ابني فرحاً جداً، أخذني ذلك لاجواء العائلة.
كلمة حق للعميد الإنسان..
لن أنسى كلمة حق للعميد يوسف بوعلاي. كان متعاوناً جداً معناً، ولم يأل جهداً لتوفير أمور عديدة، بما فيها الزيارات وأوقاتها ومدتها، والسماح لنا بالاتصال في أوقات غير المخصصة لنا أيضاً، كان يقوم بزيارتنا للسؤال والاطمئنان، بل قام ذات مرة بزيارتنا في وقت الزيارة، وجلس مع أهلنا، وقام والدي بتقديم الضيافة له، وشاركنا في طعامنا، وعاد بعد ساعة أو ساعتين وسأل إن كنا بحاجة لوقت إضافي. ذات مرة طلب مني مرافقته للعنبر، فكنا نمشي معاً دون أن أشعر أنه العميد وأنني السجين، وعند وصولنا للعنبر سألني إن كان ما أحمله طعام، فقلت نعم، فقال للحراس: الدكتور لديه طعام لا داعي لتفتيشه وأدخلوه، وسألني إن كنت أريد الاتصال بأهلي فقلت ياليت، وسمح لي بالاتصال لربع ساعة. بعد الإفراج عنا، قمت أنا وأخي غسان وزوجتينا بزيارته في مكتبه في مبنى وزارة الداخلية وشكره لكل ما قام به.
اقرأ أيضا
- 2013-01-28نبيل تمام والخروج على تجربة العتمة: أيها الصندوق.. لستَ آخر معاركي
- 2012-12-27باسم ضيف: كان النداء الأكثر ألماً من السجن، لماذا تركت غسان وحيدا!! «4-4»
- 2012-12-19باسم ضيف متحدثاً عن تجربة السجن: مجمع عنبر 5 الطبي «2-4»
- 2012-12-16باسم ضيف: داخل القَسَم الطبي حتى آخر قطرة سجن «1-4»
- 2012-12-10غسان ضيف، زهرة السماك: معاً في الجنايات.. معاً حتى النهايات «4-4»