» رأي
الجنسية في البحرين بين منطق المزرعة ومنطق المملكة
يوسف مكي - 2012-11-11 - 7:55 ص
يوسف مكي*
سياسة سحب الجنسية من قبل النظام في البحرين ليست أمرًا جديدًا، بل هي سياسة قديمة. فقد سبق للنظام، وعلى امتداد عشرات السنين، أن سحب الجنسية من مئات المعارضين، ونفاهم الى خارج البلاد. هكذا كان الوضع في الحقبة الاستعمارية، وواصل النظام الخليفي نهجه حتى بعد الاستقلال، مرورًا بعقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، حيث ازدادت وتيرة سحب الجنسية والنفي إلى خارج الحدود. وبفعل تلك السياسة غير الحكيمة، أصبحت المعارضة البحرانية، من شتى الاتجاهات، موزّعةً على بقاع العالم، خلال الربع الأخير من القرن الماضي، وباتت سمعة النظام في مجال انتهاهاكات حقوق الإنسان في أسفل سافلين، إقليميًا ودوليًا.
طبعًا هذه السياسة من النظام تجاه المعارضين ما هي إلا إحدى الإجراءات التعسفية التي يقوم بها النظام بحق كل من يعارضه، وبالتالي فإن سحب الجنسية هي إحدى الأدوات السياسية التي يلجأ إليها هذا النظام للحدّ من نشاط المعارضين، مُبرِّرًا لها بحجّةٍ واهية هي تهديد الأمن الوطني. في حين أن سحب الجنسية لا يجوز في كل الأحوال، حتى في حالة ما يُسمى بـ"الخيانة الوطنية"، لأن هذه الحالة هي الأخرى بحاجة إلى إثبات مُركّب، قانوي سياسي أخلاقي اجتماعي، لأنه لا يجوز أن نصف أي شخص بالخيانة الوطنية جِزافًا، فقط لأنه ُيعارض النظام، أو يقول حتى بإسقاط النظام، وذلك لسببٍ بسيط لكنه غاية في الأهمية، وهو أن معارضة النظام، أو القول بإسقاط النظام، لا تُساوي الخيانة الوطنية، إنما يدخل ذلك في خانة التعبير عن حرية الرأي، وفي باب المعارضة. كما أن معارضة النظام، أو القول بإسقاطه، لا تساوي إسقاط الوطن، فالأنظمة تأتي وتذهب، كما أن المعارضة تأتي وتذهب، والوطن وأهله باقون.
يكفي الإشارة إلى سقوط نظام حسني مبارك في مصر، لكن مصر الوطن، والأرض، والشعب باقية، ومع ذلك، لم يتجرّأ نظام مبارك على سحب جنسية أي من معارضيه، تحت أي ذريعة، لا تحت ذريعة تهديد الأمن الوطني ولا ذريعة الخيانة العظمى، في حين يحدث كل ذلك في البحرين، منذ عشرات السنين، وخارج الأعراف والقوانين المحلية والعالمية، وعلى مرأى ومسمع من العالم .
نعم ، نظام مبارك لا يستطيع أن يتعامل مع معارضيه مثلما يتعامل النظام في البحرين مع معارضيه ويسحب جنسياتهم، لأن حسني مبارك وبقية المواطنين سواءٌ في المواطنة، وإنْ لم يكونوا سواء في الامتيازات. أما في البحرين فإن الأمر مختلف تمامًا، ذلك أن البحرين، بأرضها، وبحرها، وأجوائها، هي، من منظور آل خليفة، أرض تابعه لهم، أو مزرعة خاصة بهم، وأن سكان البحرين مجرد أُجَراء ورعايا لدى الشيوخ في هذه المزرعة، وعليه فإن الشيوخ هم من يقررون من له الحق بالعيش في هذه المزرعة ومن ليس له الحق في العيش فيها، بمعنى أن حق الانتماء إلى مزرعة البحرين هو حق حصري في يد الشيوخ / النظام، فقط لأن البحرين هي مزرعة لمن يحكمها وليست وطنًا لكل أبنائها الذين ولدوا فيها على قدم المساواة. ومن هنا، فكل من يعارض الشيخ فهو يهدد المزرعة، ويهدد أمن المزرعة، وبالتالي لا بدَّ من طرده من هذه المزرعة عن طريق سحب جنسيته، لأن هذه الأخيرة من وجهة منطق المزرعة، هي مَكْرَمة، أو هبة من قبل الشيوخ، وليست حقًا أصيلًا من حقوق الإنسان.
لذلك فإن آل خليفة، و وعلى الرغم من القشرة القانونية التي يسترون بها طريقة حكمهم ونظرتهم إلى البلاد والعباد، وعلى الرغم من تحويلهم المزرعة إلى مملكة منذ عشر سنوات، وعلى الرغم من مظاهر المملكة/ الدولة الحديثة، فإنهم ما زالوا يحكمون بمنطق المزرعة وآليات إدارة المزرعة، وليس بمنطق إدارة الدولة/ المملكة، القائمة على المواطنة والحقوق المتساوية بين الحاكم والمحكوم، ومن بينها، بطبيعة الحال، حق الجنسية، الذي هو حق للكل وليس مِنَّة أو مَكْرَمة من أحدٍ على أحد.
لكن على ما يبدو فإن الشيوخ اختاروا بُعيد الاستقلال لمزرعة/ إمارة البحرين، في بداية السبعينات، اسم دولة البحرين، ليوهموا العالم بأنّهم في دولةٍ تقوم على مؤسسات تنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لكنهم، في الوقت نفسه في طريقة حكمهم لشعبهم، يتجاوزون منطق الدولة في التعامل مع مواطنيهم عامّة، والمعارضين خاصّة، ويُنكّلون بهم بطرقٍ مختلفة، من بينها سياسة إسقاط الجنسية المُمتد في الزمان، ويعودون إلى الوراء وفقًا لمنطق المزرعة، والسيف، والغنيمة.
حتى بعد أن اعتقد كثيرون، مع الملك الحالي الشيخ حمد بن عيسى، قبل عشر سنوات، أن عهد سحب الجنسية قد ولّى، ها هو اليوم يعود بقوة، وفي زمن المملكة "الدستورية"، ليُسقط الجنسية عن 31 مواطنًا بحرينيًا معارضًا. إن اسم المملكة، وما يتطلبه من مؤسسات دستورية وحقوق وواجبات بين الحاكم والمحكوم، من المفترض أن يمنع موظفًّا كبيرًا، كوزير الداخلية، من سحب جنسية أي مواطن، مهما تكن جنايته، فكيف الحال إذا كان من سُحبت جنسياتهم من المعارضين ومن شرفاء هذا الوطن وخيرة كوادره؟
لكن، أيًّا تكن المُسمّيات لهذه المزرعة -دولة أو مملكة – فإن منطق النظام في البحرين يأبى إلا أن يتعامل مع شعب البحرين بمنطق المزرعة، لا بمنطق الدولة الحديثة، بمنطق السيد والعبد، لا بمنطق المواطَنة المتساوية والحقوق المكفولة بالقانون، لذلك فإن سحب الجنسية، وكما أشارت منظمة العفو الدولية "إجراء مُخيف تقشعّر له الأبدان"، بمعنى أنه خطير ويعود بنا إلى زمن ما قبل الدولة، أي الى زمن بدايات الغزو والسلب والمغانم لهذه البلاد.
حقًّا هذا هو منطق مزرعة البحرين، وليس مملكة البحرين. وشتّان بين منطق المزرعة، ومنطق المملكة الدستورية، لأن منطق الدولة المؤسّساتية لا يسحب الجنسية من مواطنيه لأنهم يعارضونه، وإلا أصبحت كل المعارضات في العالم خارج أوطانها، مسحوبة الجنسية، وفقًا لمنطق مزرعة البحرين. يبقى القول أن الطريق طويل، طويل في سبيل دولة المواطنين المتساوين، الذين لا تُسحب جنسيتهم، فقط لأنهم لا يُعجبون الشيوخ في مواقفهم، أو لأنهم معارضون للنظام، والطريق طويل، لكنّه واعد، في سبيل تحويل البحرين من مزرعة خاصّة بقبيلة، إلى دولة/وطن لكل أبنائه، دون سحب جنسية، تحت أي سببٍ من الأسباب.
*باحث بحريني متخصص في علم الاجتماع.