د.علي أحمد الديري: الشهيد جعفر محمد سلطان.. جاء قرة عين ورحل حرّة قلب
علي أحمد الديري - 2024-09-13 - 6:35 ص
مقال كتبه الدكتورعلي أحمد الديري إثر لقاء جمعه مع والد الشهيد جعفر سلطان، تنقله "مرآة البحرين" كما نشره الدكتور الديري عبر حسابه على الأنستغرام:
"لم يتعبنا في المجيء، لكنه أهلكنا بالرحيل. جاء قرة عين ورحل حرة قلب" كنا ننتظره بشوق العاشقين للوصل والصلاة. لم تكن أمه طوال فترة الحمل به تغادرها طهارة الوضوء. ترقب لحظة الأذان بولادته حتى كانت ولادته في 10 فبراير 1992. نشّأته أمه في حلي محبة أهل البيت. أرادت له طهارة القلب والنفس والجسد، فداومت على الطهارة في إرضاعه، وأجرت عليه الغسل كل جمعة، وهو ذو بضعة شهور. لم تكن تدرك أنها تهيئة لعرس الشهادة.
قلب الرضا
في الشهر السابع من ولادته، أخذته والدته لزيارة غريب طوس، غمرت روحه بأنس الرضا، فانعقد قلبه على حب الرؤوف. ما كان يطيق أن يغيب عنه. إلا مسافة اشتياق العاشقين. حين تتعذر علينا الزيارة يدبر الأمر بنفسه، ولا يهدأ حتى يكون في مشهد المقدسة، فيصل ويتصل حتى تُروى روحه العطشى.
لقد منحته هذه التربية ومتعلقاتها مقاما خاصا، وإذا كان ثمة ما فوق البر بالوالدين، فيمكنني أن أسميه مقام جعفر. أنا والده أعطيه هذا المقام، على الرغم من أن الوالد لشدة ما يُعطي لا يمكنه أن يرى أولاده إلا في مقام النقص. لكن جعفر ليس كسائر الأبناء، وأنا بجعفر ليس كسائر الآباء. لقد أضافني إليه، أكثر مما أضفته لي.
علي وجعفر
في أحداث التسعينيات، وهو ما زال طفلا يمتلئ بما يحدث في محيطه من ظلم وجور. أخذته إلى بيت عمه الحاج عبدالله. أوقفتنا في الطريق قوات الأمن. امتلأت عينه بمشهد تعاطيهم البغيض. حمل الطفل في قلبه الطاهر كدورات هذا المشهد. في 2011 شب على حدث أكبر، وجد نفسه مع ذات القوات الأمنية معتقلا إلى جنب أخيه (علي) في 2012. بعد أن دخلت القوات البيت وانتهكت حرمته، وعاثت فيه فسادا، وترويعا لوالدته.
يبدو أن أحدهم تعرّف عليه شخصيا في مركز التوقيف، قال لهم فتشوا ملابسه أراهنكم ستجدون قرآنا بين ثيابه. هذا الولد ليس ما تبحثون عنه، أنه حمامة مسجد وسلام. وفعلا وجدوا بين ملابسه القرآن الذي أحبه وتعلمه وعلمّه في قريته لجيل من الشباب، حتى صار مشروعه مدرسة قرآنية، نفخر بها. كان ذلك في ٢٤ من شهر شعبان وجعفر صائم كما هي عادته في رجب وشعبان من كل عام.
اتصلوا بي في اليوم نفسه لاحقا لأتسلمه، حين وصلت إليه وهو خارج المركز يتمشى وجدت وجهه مأخوذا، لم أسأله، عرفت لاحقا أن صرخات تعذيب أخيه (علي)، كانت تضرب في قلبه، وقد حفرت ندوبا في نفسه.
خارج الجوار المقدس
جرت العادة أن تكون لقاءاتنا العائلية خارج الوطن، جوار الأئمة والأماكن المقدسة. لكن هذه المرة لقاء العائلة في مكان مدنس بالعذاب، سجن الدمام على طريق الرياض. هكذا كان المكان في زيارتنا الأولى له بعد أشهر من انقطاع أخباره بعد اعتقاله في 2015. في مكان لا يشبه نهر قلبه الصغير، كان كل شيء غريبا. قال لنا جعفر جملة حفرت عميقا في وجداننا: إن لم أحصل على الشهادة الجامعية، سأحصل على شهادة ترفع رأسكم.
فاجعة الإعدام
اعتقل جعفر وهو في الأشهر الأخيرة من دراسته للهندسة، ودرجاته دوما امتياز. كنا نرقب حفل التخرج، لنحضر عائلة كاملة مكتملة، تتوج محصولها الأول بالشهادة. لكن جعفر بشرنا بشهادة أخرى. أقول إننا بصراحة لم نستوعب عبارته الواضحة المركزة حول شهادته التي أخبرنا بها في سنوات الاعتقال الأولى. والسبب في ذلك أن جميع المحامين أكدوا لنا أن الإعدام لن ينفذ، حتى لو تم الحكم، وثبّتت محكمة التمييز ذلك، لأنه لم يسقط دم، ولم تكن هناك مواجهة عسكرية. قلبه الشفاف وحده عرف ورأى ما ينتظره. أما نحن فكنا مطمئنين إلى أن ذلك لن يحدث.
يوم 29 مايو 2023، للتو قد انتهينا من وجبة الغذاء، أخذت والدته تتصفح الانستجرام، لتُفجع بخبر الشهادة، دخلنا جميعا في لجة حزن عميقة، كان الخبر مطروحا في الطريق، على جميع وسائل التواصل، لم نفكر كيف يخبر أحدنا الآخر؟ حتى الصغيرة فاطمة وجدت نفسها في بيت الأحزان، دون الحاجة لنتحمل مشقة كيف نخبر طفلة بشهادة أخيها الكبير الذي تنتظره. عرفت فاطمة أن أخيها رحل، لكن لم نخبرها ببشاعة الإعدام، تركنا ذلك للزمن المر الذي يداوي كل نفس بحسب طاقتها.
فاطمة سلوتنا
جاءت فاطمة بعد أربعة عشر عاما من الانتظار، يتقدمها جعفر وعلي وحسن ومحمود. جاءت سلوة قلب لنا جميعا، الملامسة الأولى بين جعفر وفاطمة حصلت في السجن، وهي تزال في أمان قماطها. تعرّفت على أخيها هناك، لم تدرك معنى أن أخوة جعفر في شكلها الطبيعي تكون في البيت، لم تعرف جعفر أخا أكبر، يلاطفها في سريرها، ويحملها على رأسه يجوب بها أجواء البيت المثقل الآن بالفقد والحزن. لم تعرف فاطمة جعفرا حضنا يضمها سورا ودرعا وجدار أمان.
نهر الأخوة
أدركت فاطمة جعفر نهرا محبوسا ماؤه. تعلق بها جعفر تعلقا استثنائيا، كأنه أراد أن يُخزّن صورته كلها فيها، كبرت علاقتها بجعفر طوال ثمان سنوات، وهو سجين محكوما بالإعدام. مهدد في كل لحظة بالعدم. كان صوتها وهي تحمل صورة أخيها جعفر، قبل ثلاثة أشهر من التنفيذ، يناشد العالم لإيقاف حكم الإعدام، لكن القلوب المتحجرة لا تليّنها أصوات الطفولة، فكان الإعدام.
تتميز فاطمة بحس إدراكي عال، تظل في البيت تنادي جعفر جعفر وهي تبكيه. كان سؤالها الملح: متى يعود جعفر معنا إلى البيت؟ لم يعد للسؤال جواب الآن ولو في شكل أمنية حتى لو كانت أمنية كاذبة، نلامس بها قلب طفلة والهة لأخوة صارت في العدم.
لا ادري كيف سيحضر جعفر في مخيلتها بعد سنوات، وهي لا تملك له حتى صورة تجمعها به، ولا أدري كيف ستغفر لنا غياب هذه الصورة، هل ستلتمس لنا العذر في تعذر الصورة علينا. هكذا أفهم الإعدام الآن: ألا يكون لك صورة مع أختك الصغرى. أن تعيش أختك الصغرى اليتم الأبدي من صورة تجمعها بك، من صورة تسلي ذاكرتها الثكلى.
جامع علي
تربى جعفر في جامع الامام علي (ع) في دار كليب. ارتبط به منذ طفولته، وتدرج على عتباته الروحية وتشبع بدروسه الدينية، اتخذ من المسجد محراب علم ودار عبادة. تسلم راية التدريس في الجامع بعد تخرجه من المرحلة الثانوية، صار معلما في جامع علي، ولا يضاف شيء لعلي إلا تشبع بروح علي الجامعة لكل جمال إنساني.
كثير من الشباب الجامعي اليوم، تربوا على يد جعفر في جامع علي، وتعلقوا به، فاسم علي يمس القلوب والعقول. لجعفر حضور في القرية كلها، والشهادة أكسبته علوا في نفوسهم. فقد تربى على عيونهم بالجامع، كبر بين تكبيرات صلواتهم، ونال الشهادة على وقع أصوات تشهداتهم التي لا أشك أنها كانت حاضرة في رأسه في لحظاته الأخيرة. صار نموذجا لخريجي هذا الجامع، والنموذج الذي يفخرون به.
كان سؤال جعفر الدائم في السجن، بعد بدء مشروع إعادة بناء الجامع، متى سيكون افتتاح الجامع؟ كان يٌمني نفوسنا أن تكون فاتحة السجن فاتحة الافتتاح. لكن بعد شهرين، صارت فاتحة الشهادة، فاتحة أبواب الجامع، افتتح الجامع في ١٣ يوليو ٢٠٢٣ وروح جعفر كانت حاضرة في كل جنبة فيه.
كان يمازحني بالقول إن تأخر افتتاح المسجد بسبب انتظارهم الإفراج عنه. كان يقولها وكأنه يريد أن يرسم الابتسامة على قلوبنا، ويذكرنا دوما أن فاتحته فاتحة الجامع. كان يتفقد رفقاء الجامع الكبار والصغار وكأنهم عائلته التي تنتظره.
مناجاة علي
في جامع علي تعلم التعلق بمناجاة علي وولده، عشق المناجاة الشعبانية، حفظ أغلبها، وكانت سلوة روحه في السجن، طلب من أمه تكتبها له في قصاصة صغيرة وتمررها في الزيارة، فكتبتها ومررتها عبري، لكن الكاميرا اكتشفتنا حين سلمناها، وتعرضنا لوجبة تحقير وإهانة بعد الزيارة، وظلت أمه قلقلة حتى موعد الزيارة القادم، قلقة أن يتعرض للأذى.
أسترجع بعض فقرات المناجاة وأتخيل روحه المطمئنة في لحظتها الأخيرة، أتخيله صلبا قويا، لا يرف له جفن، مسلما مقادير عمره وأمر منقلبه لله، متحصنا بكلمات سادته ومواليه التي كانت تُهوّده بها أمه حتى ينام. لقد نام نومته الأبدية متمتما بلذيذ مناجاتهم:
"فَقَدْ هَرَبْتُ إِلَيْكَ وَوَقَفْتُ بَيْنَ يَدَيْكَ ... وَلايَخْفى عَلَيْكَ أَمْرُ مُنْقَلَبِي وَمَثْوايَ ... وَقَدْ جَرَتْ مَقادِيرُكَ عَلَيَّ يا سَيِّدِي فِيما يَكُونُ مِنِّي إِلى آخِرِ عُمرِي مِنْ سَرِيرَتِي وَعَلانِيَّتِي وَبِيَدِكَ لا بِيَدِ غَيْرِكَ زِيادَتِي وَنَقْصِي".