عباس المرشد: أجراس الشملان.. محاولة لفهم مسار النزاع من أجل الاعتراف في البحرين
عباس المرشد - 2023-07-14 - 11:17 م
غيب الموت أحد رواد طريق الحرية والديمقراطية في الزمن الصعب، غاب أحمد الشملان دون ضجيج يذكر بعد أن كان صاحب الصوت الأعلى والجرس الأشد دويا يطالب بالديمقراطية والوحدة الوطنية. رجل أقل ما يقال عنه إنه تعالى على الانقسامات الضيقة واختار أن يكون صانعا من صناع الديمقراطية في البحرين ومنطقة الخليج.
لم ألتق به إلا مرة أو مرتين إحداهما في حفل توزيع جوائز صحيفة الوسط لمسابقة البحوث الشبابية، وكان من ضمن الشخصيات المكرمة في الحفل ذاته بمبادرة من الدكتور منصور الجمري حينها لم يكن الشملان قادرا على الحديث أو النطق لكن بريق عيونه وبشاشته تأخذك بغير استئذان إلى مخابئ الألم ومشارق الأمل. لم أكن أسمع بإسم الشملان قبل 1993 أو 1992 إلا عندما كانت أخبار العريضة النخبوية تتداول في مجلس درس ليلة السبت في مجلس السيد جميل كاظم. وفي بعض الأوراق التي يتركها سماحة الشيخ علي سلمان في أروقة البيت أحيانا فتقع بين يدي أسماء كثيرة ولكن إسم الشملان كان ملفتا حينها، ربما لقدرته على نسج ذاكرة تاريخية كنت في بدايات تشكيلها حول الحركات السياسية في البحرين وبالأخص حركات 19938 و1954 كون كلا الحركتين تضمنت أسماء قيادية من عائلة الشملان عرفت لاحقا أن الجد وأبيه والحفيد تعاقبا على قيادة الحركة الوطنية المتعالية على الفراغات الشاسعة التي تتركها السلطة بعملها الانقسامي والتشطيري كما يقول الدكتور عبد الهادي خلف.
الصورة والذاكرة الجماعية
اندلعت انتفاضة 1994 الدستورية وانا في الكويت ولم يكن من بين أيدينا وقتها وسائل اتصال غير الفاكس نستقبل به بيانات حركة أحرار البحرين ونتداولها مع بضع بيانات الجبهة الإسلامية، أما الذي لم يكن جهاز الفاكس يقدر على مجاراته فهي الكتابات الصحفية التي كانت تكتب في الصحف العربية حول انتفاضة البحرين فكان من السهل الحصول عليها بلا عناء، وعلى قائمة تلك المقالات كتابات أحمد الشملان ومقالات الراحل عبد الرحمن النعيمي. وللأمانة كان إلى جانب أولئك مصدر آخر من مصادر الوعي السياسي والتعبئة السياسية التي كنا منشدين إليها كفئة شباب وكفئة منخرطة في أعمال الانتفاضة، كانت خطب سماحة الشيخ الجليل الراحل عبد الأمير الجمري.
إلى هنا أقطع حبل السيرة والذكريات، فقد تشكلت اللوحة التي أردت أن أرسم أبعادها، لثلاثي فريد من نوعه في تاريخ البحرين، شيوعي عتيق متصلب في رؤيته التنظيمية والأيديولوجية، إلى جانب يساري مخضرم، إلى جانبهم رجل دين كبير وقائد جماهيري. وقف هذا الثلاثي المواقف ذاتها والتفكير الميداني ذاته فتراخت الأيديولوجيا والحزبية والرؤية الكونية وتوارت خلف منطلقات يحتاجها الشعب ويحتاجها الوطن. كانت حاجة الانعتاق من العبودية ونيل الاعتراف بالحرية والكرامة، عنوانين تجمع العمامة والمنجل والمطرقة، في مسار واحد، ولو قدر لهؤلاء الثلاثة أن يكونوا في الساحة نفسها لكان قدرهم أن يجتمعوا في السجن أكثر من اجتماعهم في الميدان.
وصدقا، فإن هذه الصورة ليست فريدة من نوعها في تاريخ البحرين السياسي فمنذ أن تشكلت أول حركة سياسية شبه منظمة في 1934 أصبحت مثل هذه الصورة تبرز بوضوح في محطات متتالية ( 1938 و1954 و 1994 و2011) ولكي لا نقع في التأويل الحالم فإن تلك الصور ليس بالضرورة أنها كانت تعبر عن كل المجتمع المحلي، بل ربما على العكس من ذلك، فإن تلك الصورة كانت تظهر على أطلال فتن طائفية، ومشاريع تقسيم تشطيرية تقف خلفها سلطة إيان هندرسون وسلطة الرفاع، فتقرع أجراس الخطر وتقرع أجراس الحرية، لإيقاف نزيف الوطن وتحرير الإنسان البحراني من مشاريع سلطة سياسية لا تعترف بوجود الشعب، وأن اعترفت بوجوده، فهي تصر على أن يكون اعترافا مشوها ويحمل العنوان الخطأ، المدلل على الازدراء والحط من الكرامة. فالسلطة لا يعنيها المذهب أو الطائفة أو حتى القبيلة بقدر ما تعنى كل العناية بأن تكون في قمة هرم المجتمع بعيدة عن المسائلة والمحاسبة.
النضال السياسي أو النزاع من أجل الاعتراف
في حديثي الأخير حول الثقافة المستبعدة أشرت إلى أن حراك البحارنة منذ 100 عام هو حراك ونزاع من أجل نزع الاعتراف من السلطة الحاكمة بوجود شعب يستحق الحرية والكرامة والمحبة. مهما اختلفت المسميات والمسارات والخيارات السياسية فكلها ستؤول إلى هذا الجذر الإنساني أي التمتع بحق الاعتراف. ولكن إذا ما كانت السلطة متعالية وترى في نفسها الآلهة المقدسة، فمن المؤكد أنها لن تقوى على تقديم الاعتراف، سواء الاعتراف بجرائمها، أو الاعتراف بوجود من يستحقون الاعتراف بوجودهم وهويتهم. وهذه هي المحنة التي عاني منها الشملان والشيخ الجمري والنعيمي إذ رحلوا جمعيا ولم تعترف السلطة أمامهم أو تطلب الصفح منهم.
والحديث عن سيرة الراحل أحمد الشملان لا ينفك عن سيرة الاضطهاد والاعتراف الخطأ. فمنذ أن ابتدأ الشملان كتاباته في الصحف الخليجية بشكل منتظم ومن ثم لاحقا في صحيفة أخبار الخليج البحرينية توجهت كتاباته للتبشير بالديمقراطية حيث الموجة الثالثة للديمقراطية قد ضربت شطئان الخليج بعد غزو العراق للكويت. لم يكن أحد يتجرأ للحديث عن الديمقراطية والدستورية في البحرين والمنطقة باستثناء الكويت لخصوصية وضعها. في حين كان الشملان يشحذ قلمه دفاعا عن الديمقراطية والحرية المغلولة يداها بفعل قانون أمن الدولة سيء الصيت الذي لم يبارح أجساد المعتقلين ومن بينهم جسد الشملان نفسه حيث كان أول ضحاياه في 1974 وأشد المتضررين منه بين 1981 و1986. وفي مقال له في 6 أبريل سنة 1992 حمل عنوان "الواقع بين الاستثناء والقاعدة" أن هناك واقع لا مفر من الاعتراف به وهو أن جميع الفعاليات السياسية في دول الخليج العربي تطرح قضية الديمقراطية والعودة للعمل بالدساتير بصفتها القضية الأكثر إلحاحا وأن الاستثناء هو الوضع القائم والمتعارض شكلا ومضمونا مع الدساتير المعطلة" وبعد ذلك بأيام كتب الشملان في مجلة صدى الأسبوع " كتب " إن من حق المعارضة ممارسة نشاطها والتعبير عن رأيها ضمن مؤسسات ديمقراطية منتخبة انتخابا حرا مباشرا وهو ما تفتقده بلدان الخليج عموما.." يجرنا ذلك إلى طرح قضيتين:
الأولى: المسار الذي يؤطر حراك المعارضة وصراعها من أجل نزع الاعتراف.
الثانية: في فنون التحريك السياسي وتحشيد الرأي العام والتعبئة السياسية المطلوبة.
وكلا القضيتين تحتاجان منا توقفا وتأملا في السيرة والمسيرة.
فمسألة نزاع الاعتراف، هي التي تشكل لوحة الصراع ذي المئة سنة الماضية. وربما أشكل علينا العنوان والشعار وهو ما ينفذ بنا إلى مراجعة القضية الثانية أي فنون التحريك السياسي. إذا ما لاحظنا أن الثورات الكبرى في تاريخ البحرين لم تكن تحدث فجأة ومصادفة، بل هي نتيجة اشتغال وتعبئة مسبقة تنجح في تحديد قضيتها بكل وضوح وتحشد قوتها بكل الأدوات المتاحة، لإيجاد وتشكيل الأجواء المناسبة للتحريك.
دعونا نظر إلى بداية انطلاقة صراع نزع الاعتراف في 1922 وكيف عبأ البحارنة قوتهم ناحية مطالب كانت في وقتها حقوقية تخص الكرامة والمساواة، لكنها استطاعت أن تؤثر في ميزان القوى آنذاك وأن تعزل الحاكم المستبد عيسى بن علي. ومن نتائج هذه القوة والتعبئة أن نرى في 1934 جرأة في مواجهة الحاكم ونزع الاعتراف منه في حادثة إعلان قانون شؤون القاصرين الذي أصدره حمد بن عيسى فداهمت القوى المعارضة قصره في الرفاع وأجبرته على سحب ذاك الإعلان. ومن بعد هذه الحادثة تشكلت قوى التغيير الوطني في 1938 وكانت التعبئة تعتمد على مرض الحاكم وغيابه عن البلاد للعلاج وعندما قدر له الرجوع انتقم من الفئة المعارضة شر انتقام ونفى بعضهم ومن بينهم سعد الشملان وعلي الفاضل.
وإذا ما رجعنا إلى ظروف تأسيس هيئة الاتحاد الوطني سنجد الأمور متشابهة وأن تعبئة طويلة أتت أكلها بحركة هي الأولى من نوعها على مستوى الخليج أما الانتفاضة الدستورية في 1994 فهي أوضح مثال على ضرورة التعبئة وتحمل الصعاب والمخاطر وقبول التحدي، كما فعل الشملان والشيخ الجمري لتثبيت حق الاعتراف بحقوق الشعب وعودة العمل بالعقد السياسي. ومنذ اندلاع شرارة الانتفاضة الدستورية في نوفمبر 1994 والمطالبة ترتكز على إنشاء عقد اجتماعي يؤمن الاعتراف بحقوق الشعب كاملة ويرفض الاعتراف بالخطأ بتلك الحقوق كمجلس الشورى المعين أو الالتفاف على ميثاق العمل الوطني.
وفيما يتعلق بفنون التحريم في سيرة الشملان، فنجد أنه وبالرغم من تصلب الشملان الأيديولوجي، لكنه أمام وطأة الحاجة السياسية نراه يراجع مواقفه السياسية إزاء الحركة الإسلامية ويدخل مرونة غير متوقعة من تيار سياسي عرف عنه نزعته المفرطة في استعداء الحركة الإسلامية. فعلى سبيل المثال كتب مرة رأيه المباشر في تحليل التيار الإسلامي ووصفه بأنه تيار خضع لصناعة السلطة، وهو هنا يسترجع رؤية ما قبل المجلس التأسيسي ورؤية المجلس الوطني في 1974 وما بعدها.
بعد عدة أشهر من كتابة هذا المقال، يقترح الشملان التعامل مع التيار الإسلامي رغم الاختلاف الجوهري حوله من منطلقات سياسية دنيوية. ويعيد رسم خارطة القوى السياسية بناء على معطيات مستحدثة في الواقع، وتجربة يعتبر أحد المهندسين لها وأحد القيادات الفعليين فيها إذ تحول مكتبه لمقر سري لعقد الاجتماعيات وترتيب خطط العمل، وهي تجربة العريضة النخبوية التي قربت القوى السياسية المعارضة من خلال أرضية المصلحة السياسية العليا وتوفير مساحة كبرى من الاعتراف بحق القوى السياسية بالمعارضة والعمل السياسي. بعدها نجد أن الشملان يؤسس رؤية تقاربه مع التيار الإسلامي من منطلق حق القوى السياسية الإسلامية في مناقشة الوضع العام والمسألة السياسية. ولا يثير الشملان هنا مسألة التضحية والدخول في نادي دافعي فواتير المعارضة التي قدمها التيار الإسلامي منذ 1979 ولا يستعرض النقمة الجنونية التي غطاها قانون أمن الدولة تجاه قيادات وأفراد التيار الإسلامي رغم أن الظروف ربما قد جمعته مع بعضهم في أواخر سجنه الأخير في 1985-1986. وهنا نقف أمام أحد أمراض الحقل السياسي وأحد أهم موانع قدرة النزاع من أجل الاعتراف من تحقيق الإنجازات المتوقعة وهو نقص الاعتراف البيني داخل قوى المعارضة ومحاولة تأطير ذلك بالتراتبية التاريخية وكأن الزمن والتاريخ يتوقف أمام منجزات إحدى القوى ويغلق أبوابه أمام إنجازاته. لقد خرج الشملان من سجنه ووجد تنظيمه السياسي منهارا مفككا خصوصا بعد الضربة القاضية التي تلقاها في 1986 وانتهت النتائج أن يكون الشملان وعدد بسيط لا يتجاوز أصابع اليد هم قيادة التنظيم وهم الفاعلين فيه في الداخل مقابل قيادة الخارج.
إن الأحداث الإقليمية التي عصفت بالمنطقة بعد غزو العراق للكويت في أغسطس 1990 وانهيار الاتحاد السوفياتي في العام نفسه، أوجدت مناخا سياسيا مختلفا دفع بمسألة النزاع من أجل الاعتراف إلى الواجهة وبات مهما لجميع القوى السياسية أن تبادر في أخذ حصة من النضال السياسي معتمدة على تاريخها السياسي وعلى حراك بعض منتسبيها القادرين على مواجهة بطش السلطة وجبروتها. فكانت رياح الديمقراطية تضرب خيام المشيخات المنصوبة على آبار النفط وعندما تقاربت القوى السياسية حول استعادة الاعتراف بالعقد الاجتماعي الذي تنصلت منه السلطة في أغسطس 1975 أصبحت رؤية الشملان للتيار الإسلامي أقل حدة وأقرب إلى المصالحة والاعتراف الكامل بحق القوى الأخرى في النضال لهذا جاءت جهود لجنة العريضة الشعبية قاصمة ومحبطة لمسارات السلطة وقادرة على تثبيت حق الاعتراف كأحد أهم الحقوق السياسية والاجتماعي التي تناضل من أجلها القوى السياسية.
الاعتراف بين الشرعية والمشروعية
لقد دفع الشملان ثمن ذلك الصراع من أجل الاعتراف وعملت السلطة بكل أجهزتها على أن تحصل منه على اعتراف بجبروتها وسطوتها، أو أن يقبل بالتخلي عن رفاقه في الانتفاضة الدستورية فكان عنيدا صعبا على الجلادين والمحققين إقناعه بالاعتراف الخطأ. وهذا يفسر لنا جزء من الظلامة التي عاشها الشملان في وفاته ومنع الصحف المحلية من أن تعطيه ولو مقدار مقال أو تغطية لوفاته... هكذا تتنقم السلطة من خصومها عبر فجور فاحش في الخصومة وهكذا يناضل الشرفاء منذ 100 عام من أجل نزع الاعتراف.
إن أهم ما يمكن التوقف عنده في سيرة أحمد الشملان هو درس في غاية الخطورة وهو فنون التحريك السياسي والاستمرار من أجل نزع الاعتراف. ولكننا اليوم نجد كثيرين يتبرعون بصكوك اعتراف مجانية للسلطة نظير بعض الأفعال الواجب على أي سلطة إنجازها. في حين أنها سلطة لا تستحق الاعتراف ما دامت غير جاهزة لان تعترف بالشعب وحقوق المنهوبة وأن تعترف بأن هوية هذا المجتمع هي هوية الانفتاح والحوار والتطهر. ورحم الله الراحل النعيمي الذي كلما سألته ما الذي تريده من السلطة يقول أريد أن يتعلموا فنون الديمقراطية واحترام كرامة الإنسان. ورحم الله والدنا الشيخ الجمري الذي وقف موقف الشجعان في اللحظة التاريخية التي ترجل فيها عن الحياة وقال كلمته التاريخية" ليس هذا هو البرلمان الذي ناضل من أجل الشعب"
* كاتب وباحث بحريني مقيم في المملكة المتحدة
*كلمة مكتوبة ألقيت في تأبين المناضل أحمد الشملان ( 14 يوليو/ حزيران 2023)