» رأي
حكاية 14 اغسطس في البحرين
يوسف مكي - 2012-08-15 - 8:08 ص
يوسف مكي*
في 14 أغسطس 1971 أُعْلن استقلال البحرين، وتم استبدال اتفاقيات الحماية البريطانية باتفاقيات صداقة حسب ما هو مُعلن. ولكن البريطانيين خرجوا من الباب ليدخلوا من الشبّاك، ومعهم هذه المرّة الأمريكان الذين حلّوا مكانهم في قاعدة الجفير البحرية مُنذ ذاك التاريخ حتى الآن، لتتوسّع هذه القاعدة وتُصبح مقر قيادة الأسطول الخامس الأمريكي. هذا هو استقلال البحرين، الارتهان للقوى الإمبريالية.
مضى على هذا الاستقلال أكثر من أربعين عامًا، ومع ذلك فقد ظلّ هذا اليوم يومًا عاديًّا من أيام التاريخ في البحرين، ولم يتم إعطاؤه أهميةً بالمُطلق، وكأنّه غير موجود في الذاكرة الوطنية البحرينية.
فقد كان هذا اليوم (14 أغسطس) من المُفترض أن يكون عيدًا وطنيًا لاستقلال البحرين، خاصّةً أنّ هذا الاستقلال جاء بفعل نضالات مُتتالية خاضها شعب البحرين من أجل التحرّر الوطني من الخارج والتحرّر الديمقراطي من الداخل، ولم يكن بالتأكيد مِنّةً من أحد. كما جاء هذا الاستقلال أيضًا بفضل موقف شعب البحرين العروبي عندما أدلى برأيه للجنة التحقيق الأممية بأنّه يرغب في الاستقلال والحرية، وليس الانضمام إلى إيران، وقد تمّ له ذلك. وأُعلن استقلاله في 14/ 8/ 1971.
أمّا النظام الحاكم في البحرين فقد تنكّر لهذا اليوم وقام بمسحه من الذاكرة الوطنية، واستبدله بيومٍ وطني آخر هو 16 ديسمبر من كلِّ عام، ضاربًا بذلك نضالات الشعب البحريني من أجل هذا اليوم عرض الحائط، ليحتفل بيومه هو سنويًا كعيدٍ وطني. وهذا اليوم في الحقيقة من الناحية التاريخية هو يوم تنصيب حاكم البلاد السابق الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة في سنة 1961 خلفًا لوالده، واستمر هذا اليوم حتى بعد 14 أغسطس، أي بعد الاستقلال سنة 1971، ثم جاء الملك الحالي/ الشيخ حمد بن عيسى في سنة 1999 خلفًا لوالده ليَعتمد نفس هذا اليوم ويُضيف إليه يومًا آخر هو 17 ديسمبر، لكن ليس 14 أغسطس. فهذا اليوم طالما ظلَّ مُرتبطًا بالنضال الشعبي، فهو لا يعني شيئًا بالنسبة للنظام، ويجب محوه من الروزنامة الوطنية. ربّما يُمثّل ذكرى أليمة بالنسبة للنظام، فقط لأنه مُرتبطٌ بالنضال الوطني لشعب البحرين، ويُمثّل رمزًا من رموز الوحدة الوطنية، وهو ما لا يريده النظام وما لا يرغب في استذكاره.
بعكس ذلك فإنّ هذا اليوم يُمثّل يومًا يحتل أهميّةً استثنائية في تاريخ البحرين الحديث، بحيث يُمكن القول أنّ هذا اليوم يفصل بين مرحلتين مفصليتين من تاريخ البحرين الحديث، هما ما قبل 14 أغسطس وما بعد 14 أغسطس.
فقد كان هذا اليوم يُمثّل الإرادة الوطنية عندما أجمعت على الاستقلال وعدم الانضمام لإيران، أي تأسيس كيانٍ مُستقل وسيّد نفسه وبعيدًا عن التجاذبات الإقليمية، وفي نفس الوقت التدشين لحياة دستورية ديمقراطية في ظلّ مملكة دستورية ، يحكمها القانون.
ومع أنّ البحرين بعد هذا التاريخ بدأت في الاتجاه الصحيح، نزولًا عند إرادة الشعب، عندما تمّ تدشين دستور عقدي بين الحاكم والمحكوم في سنة 1972، والبدء في تجربة برلمانية ناجحة في سنة 1973، إلا أنّ النظام سرعان ما انقلب على هذه التجربة في شهر الاستقلال نفسه من عام 1975، لتدخل البحرين بعد هذا الانقلاب في مرحلة قانون أمن الدولة، ثم تتوالى الانتفاضات والمطالبات الشعبية بعودة الحياة البرلمانية وباعتبار 14 أغسطس يومًا وطنيًا للاستقلال، ثمَّ وصولًا إلى انتفاضة 14 فبراير 2011 التي ماتزال مُستمرة، والبلد مفتوح على كل الاحتمالات.
قد تكون الأيام هي الأيام، لكنّها من حيث الرمزية وفي ذاكرة الشعوب ليست سواء. لذلك لا غرابة عندما تزداد المُطالبات والدعوات في مثل هذه الأيام من القوى السياسية بالاحتفاء بهذا اليوم وما يُمثّله من رمزية تاريخية واستذكار مُختلَف نضالات الشعب البحريني من أجل نيل استقلاته، والأثمان التي دفعها في سبيل ذلك.
ومن هنا إصرار الشعب البحريني على اعتماد هذا اليوم يومًا وطنيًا، بدلًا من يوم 16 ديسمبر، ولكن دون إلغائه ودون اعتباره يومًا وطنيًا، فهو يومٌ لتنصيب الحاكم وقبل الاستقلال، ويُعبّر عن إرادة الحاكم وقبيلته، وهذا حقّه، لكنّه لا يُعبّر عن الإرادة الشعبية والوطنية، ذلك أنّ الأيام الوطنية يتمُّ التوافق والاتفاق بشأنها، ولا يتمُّ فرضها، كما يتم اختيارها باعتبارها رموزًا وطنية تُمثّل إرادة الأمّة / الشعب وليس إرادة الحاكم ومزاجه.
وفي هذا السياق، ليس هناك أنسب من يوم 14 أغسطس، لما يُمثّله من إجماع، أن يكون يومًا لعيد الاستقلال في البحرين، هذه الجزيرة الصغيرة جدًا، والكبيرة جدًا بشعبها وبتناقضاتها وأهميتها الاستراتيجية. أقول ليس أنسب من هذا اليوم، وأن يُرد إليه اعتباره، وهو في الوقت نفسه يعني رد الاعتبار لإرادة هذا الشعب، ويكون في الوقت نفسه مُنطلقًا لتأسيس المرحلة الثانية للاستقلال، وإنهاء الاستبداد.
* باحث بحريني متخصص في علم الاجتماع
في 14 أغسطس 1971 أُعْلن استقلال البحرين، وتم استبدال اتفاقيات الحماية البريطانية باتفاقيات صداقة حسب ما هو مُعلن. ولكن البريطانيين خرجوا من الباب ليدخلوا من الشبّاك، ومعهم هذه المرّة الأمريكان الذين حلّوا مكانهم في قاعدة الجفير البحرية مُنذ ذاك التاريخ حتى الآن، لتتوسّع هذه القاعدة وتُصبح مقر قيادة الأسطول الخامس الأمريكي. هذا هو استقلال البحرين، الارتهان للقوى الإمبريالية.
مضى على هذا الاستقلال أكثر من أربعين عامًا، ومع ذلك فقد ظلّ هذا اليوم يومًا عاديًّا من أيام التاريخ في البحرين، ولم يتم إعطاؤه أهميةً بالمُطلق، وكأنّه غير موجود في الذاكرة الوطنية البحرينية.
فقد كان هذا اليوم (14 أغسطس) من المُفترض أن يكون عيدًا وطنيًا لاستقلال البحرين، خاصّةً أنّ هذا الاستقلال جاء بفعل نضالات مُتتالية خاضها شعب البحرين من أجل التحرّر الوطني من الخارج والتحرّر الديمقراطي من الداخل، ولم يكن بالتأكيد مِنّةً من أحد. كما جاء هذا الاستقلال أيضًا بفضل موقف شعب البحرين العروبي عندما أدلى برأيه للجنة التحقيق الأممية بأنّه يرغب في الاستقلال والحرية، وليس الانضمام إلى إيران، وقد تمّ له ذلك. وأُعلن استقلاله في 14/ 8/ 1971.
أمّا النظام الحاكم في البحرين فقد تنكّر لهذا اليوم وقام بمسحه من الذاكرة الوطنية، واستبدله بيومٍ وطني آخر هو 16 ديسمبر من كلِّ عام، ضاربًا بذلك نضالات الشعب البحريني من أجل هذا اليوم عرض الحائط، ليحتفل بيومه هو سنويًا كعيدٍ وطني. وهذا اليوم في الحقيقة من الناحية التاريخية هو يوم تنصيب حاكم البلاد السابق الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة في سنة 1961 خلفًا لوالده، واستمر هذا اليوم حتى بعد 14 أغسطس، أي بعد الاستقلال سنة 1971، ثم جاء الملك الحالي/ الشيخ حمد بن عيسى في سنة 1999 خلفًا لوالده ليَعتمد نفس هذا اليوم ويُضيف إليه يومًا آخر هو 17 ديسمبر، لكن ليس 14 أغسطس. فهذا اليوم طالما ظلَّ مُرتبطًا بالنضال الشعبي، فهو لا يعني شيئًا بالنسبة للنظام، ويجب محوه من الروزنامة الوطنية. ربّما يُمثّل ذكرى أليمة بالنسبة للنظام، فقط لأنه مُرتبطٌ بالنضال الوطني لشعب البحرين، ويُمثّل رمزًا من رموز الوحدة الوطنية، وهو ما لا يريده النظام وما لا يرغب في استذكاره.
بعكس ذلك فإنّ هذا اليوم يُمثّل يومًا يحتل أهميّةً استثنائية في تاريخ البحرين الحديث، بحيث يُمكن القول أنّ هذا اليوم يفصل بين مرحلتين مفصليتين من تاريخ البحرين الحديث، هما ما قبل 14 أغسطس وما بعد 14 أغسطس.
فقد كان هذا اليوم يُمثّل الإرادة الوطنية عندما أجمعت على الاستقلال وعدم الانضمام لإيران، أي تأسيس كيانٍ مُستقل وسيّد نفسه وبعيدًا عن التجاذبات الإقليمية، وفي نفس الوقت التدشين لحياة دستورية ديمقراطية في ظلّ مملكة دستورية ، يحكمها القانون.
ومع أنّ البحرين بعد هذا التاريخ بدأت في الاتجاه الصحيح، نزولًا عند إرادة الشعب، عندما تمّ تدشين دستور عقدي بين الحاكم والمحكوم في سنة 1972، والبدء في تجربة برلمانية ناجحة في سنة 1973، إلا أنّ النظام سرعان ما انقلب على هذه التجربة في شهر الاستقلال نفسه من عام 1975، لتدخل البحرين بعد هذا الانقلاب في مرحلة قانون أمن الدولة، ثم تتوالى الانتفاضات والمطالبات الشعبية بعودة الحياة البرلمانية وباعتبار 14 أغسطس يومًا وطنيًا للاستقلال، ثمَّ وصولًا إلى انتفاضة 14 فبراير 2011 التي ماتزال مُستمرة، والبلد مفتوح على كل الاحتمالات.
قد تكون الأيام هي الأيام، لكنّها من حيث الرمزية وفي ذاكرة الشعوب ليست سواء. لذلك لا غرابة عندما تزداد المُطالبات والدعوات في مثل هذه الأيام من القوى السياسية بالاحتفاء بهذا اليوم وما يُمثّله من رمزية تاريخية واستذكار مُختلَف نضالات الشعب البحريني من أجل نيل استقلاته، والأثمان التي دفعها في سبيل ذلك.
ومن هنا إصرار الشعب البحريني على اعتماد هذا اليوم يومًا وطنيًا، بدلًا من يوم 16 ديسمبر، ولكن دون إلغائه ودون اعتباره يومًا وطنيًا، فهو يومٌ لتنصيب الحاكم وقبل الاستقلال، ويُعبّر عن إرادة الحاكم وقبيلته، وهذا حقّه، لكنّه لا يُعبّر عن الإرادة الشعبية والوطنية، ذلك أنّ الأيام الوطنية يتمُّ التوافق والاتفاق بشأنها، ولا يتمُّ فرضها، كما يتم اختيارها باعتبارها رموزًا وطنية تُمثّل إرادة الأمّة / الشعب وليس إرادة الحاكم ومزاجه.
وفي هذا السياق، ليس هناك أنسب من يوم 14 أغسطس، لما يُمثّله من إجماع، أن يكون يومًا لعيد الاستقلال في البحرين، هذه الجزيرة الصغيرة جدًا، والكبيرة جدًا بشعبها وبتناقضاتها وأهميتها الاستراتيجية. أقول ليس أنسب من هذا اليوم، وأن يُرد إليه اعتباره، وهو في الوقت نفسه يعني رد الاعتبار لإرادة هذا الشعب، ويكون في الوقت نفسه مُنطلقًا لتأسيس المرحلة الثانية للاستقلال، وإنهاء الاستبداد.
* باحث بحريني متخصص في علم الاجتماع