» رأي
الاستقلال الثاني وحق تقرير المصير
عباس المرشد - 2012-08-04 - 5:59 م
عباس المرشد*
باستثناء الدول الضعيفة والدول الهامشية، يُشكّل حدث الاستقلال في غالبية الدول حدثًا وطنيًا بامتياز، ومعنى الحدث الوطني هو قدرته على التعبير عن الهوية الوطنية المُجمع عليها بين أغلب مكوّنات الشعب. فالاستقلال هو بمثابة يوم الولادة للأمّة وللشعب وللدولة بعد مخاضٍ طويل من الحراك السياسي والوطني. البحرين واحدة من ضمن الدول ذات الاستثناء في شأن الاحتفاء بيوم استقلالها، فهي تسبتدل ذكرى استقلالها بذكرى تولّي كُرسي الحكم لأميرها، فبدلًا من أن تحتفل بيوم 14 أغسطس، وهو اليوم الذي أُعلن فيه عن استقلال البحرين وتحويل كافة المعاهدات مع الاستعمار البريطاني لمعاهدات صداقة، تحتفل الدولة بيوم 16 ديسمبر كيومٍ وطني بديل، وهو اليوم الذي تسلّم فيه عيسى بن سلمان زمام الحكم رسميًا.
يُشير هذا الاستبدال بشكلٍ واضح إلى استراتيجية الحُكم في بناء الدولة، ورؤيته الخاصة لمكوّنات الشعب وذاكرته التاريخية، إذ يتم اختزال وتصنيم تلك الذاكراة وتلك المكوّنات إلى شخص الحاكم، وكأنّه هو الأب الحقيقي للدولة، وله من الحقوق ما ليس لغيره من المواطنين. لا نجد هنا أي اعتبارٍ للشعب وفئاته، فكل ما يحضر هو مستلزمات الحاكم وحياته الشخصية التي تتحوّل للعلامات على وجود الوطن والمواطنين. بعبارةٍ أدق، يُصبح يوم الاستقلال حكرًا على ذاكرة الحاكم وعائلته، وكأنّه يوم استرجاع مُقتنياته التي تمَّ الحجر عليها مدّة الوصاية البريطانية على البلاد.
الرغبة في احتكار الشعب واستعباده تتكرر مع كل مرّة يعلو فيها حاكمٌ جديد سُدّة الحكم، فعندما تسلّم الأمير حمد بن سلمان زمام الحُكم، جعل من يوم تولّيه يومًا وطنيًا إضافيًا لإرث والده، دون أن يرى أنّ هناك شعبًا كادحًا وشعبًا له ذاكرته التاريخية المملوءة بالرؤى والأحلام الوطنية.
لقد كافح شعب البحرين وناضل كثيرًا من أجل أن يُحرز حُرّيته، وأن يطرد وجه الاستعمار وعميده السيد بلجريف، وحتى عندما رحل بعد حركة الهيئة العُليا (عام) 1956، أعاد الشعب حركته من أجل نيل استقلاله السياسي التام، وفتح شباب الستينات صدروهم للرصاص، وتعرضوا للاعتقالات الوحشية، والسجن في سجون جدة وغيرها من السجون التي كان أقطاب النظام الحالي يُشرفون عليها منذ ذلك الحين وحتى الآن.
ونتيجة ذلك يُصبح من المفهوم لماذا تتنصّل الدولة من يوم استقلالها وتسعى لتغييب ذاكرة الشعب لصالح ذاكراة الحاكم، فعلى عكس دول العالم الأخرى، كانت الأسر الحاكمة في دول الخليج سعيدةً بالبقاء تحت الحماية البريطانية، وعندما فوجئت بقرار الانسحاب البريطاني 1969، حاولت التشبّث به، وعرضت دفع تكاليف بقائه. لذا يرى بعض الباحثين أنّ الاستقلال السياسي لدول الخليج العربي جاء باهتًا خاليًا من أي إلهام يُثبت الهوية الوطنية الجامعة، وانعكس ذلك في رتابة حركة البناء السياسي الداخلي، وسيطرة الأسر الحاكمة على السلطة، وتكريس تفرّدها. وهذا ما أدّى لتغييب اللحظة الليبرالية التي تُصاحب حدث الاستقلال وسرعة محاصرتها.
الآن وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على نيل الاستقلال السياسي، والاعتراف الدولي بكيان دولة البحرين، يُناضل الشعب في معركة الاستقلال الثاني، القائمة على استرجاع الحقوق، وحق تقرير المصير، وهي اللحظة التي تمّ اغتيالها وفق تنسيقٍ دولي تشاركت فيه أنظمة الخليج ونظام شاه إيران وبريطانيا. ومن المُدهش هُنا أنّ الذاكرة التاريخية لا تزال تحتفظ ببدايات نزعة حق تقرير المصير، وهي لحظة يؤرّخها أحد المبشّرين في العشرينات وبالتحديد سنة 1920 عندما كان في زيارةٍ لإحدى القُرى، حيث قال له مختار القرية إن لديكم رئيسًا عظيمًا، فرد عليه المُبشّر "نعم ونحن الذين انتخبناه ليكون رئيسنا"، فرد مختار القرية "لقد وصلنا ما يدعو إليه من مبادئ إنسانية وعلى رأسها حق تقرير المصير". فقد كان مختار القرية يتحدّث عن الزعيم الأمريكي ويلسون الذي قدّم للكونجرس الأمريكي في 1918 مبادئ السياسة الدولية في 14 مبدأ.
الاستقلال الثاني هو معركة أشدُّ قسوة من معركة الاستقلال السياسي. الاستقلال الثاني كما يصفه المُنصف المرزوقي هو معركة استعادة الحرّية، وترسيخ الديمقراطية، التي تبدأ من استقلالية القضاء وتنتهي باستقلالية السلطات الثلاث عن بعضها البعض، وقيام النظام السياسي على رغبة شعبية وإرادة شعبية واضحة، والخروج من الحرب الأهلية الصامتة، هذا الصراع الطويل المرير الذي عاشه جيلنا، ممثل في بناء النظام الديمقراطي، وفي تحسين الأصناف الموجودة، وهو ما يسميه المرزوقي بالاستقلال الثاني. فشتّان بين استقلال الدولة الذي حقّقه آباؤنا وأجدادنا، فاستولى على منافعه شخص وجهاز، وبين الاستقلال الثاني، استقلال الإنسان الذي سينقل الكرامة من الخطاب المهترىء المُتآكل إلى الواقع والمُمارسة.
الاستقلال الثاني إذن هو مشروع هذا الجيل ومن سيليه، وللاستقلال الثاني بالضرورة مؤسسات تخدمه. وللاستقلال الثاني بالضرورة فكر يُبلور مفاهيمه، ويرسم لخطواته الطريق الصعب الطويل.
الاستقلال الثاني هو المعركة ضد الاستبداد القائم على مُصادرة كل الفضيلة لصالح فرد، وفرض وصاية الجزء على الكل، وتحريم المُحاسبة. ومن ثَمَّ فهو خيارٌ يتصدّى بكل قوة لحاجات فردية وجماعية، كحاجة كل الناس إلى أن يُعترف لهم بنرجسيتهم، وخاصةً حاجة كل المجموعات للمُشاركة في حياة المُجتمع على قدم المساواة، والحاجة أيضًا إلى تقييمٍ سلمي ومقبول لمن يحكمهم.
وإذا كانت حالة الاستبداد والقهر التي سادت مُنذ عشيّة الاستقلال السياسي حتى 14 فبراير 2011 كفيلةً بأن تدفع بالقيادات السياسية لأن تُنادي جهرًا بالاستقلال الثاني، وقد فعلت بطريقةٍ ما، فإنّ استحقاقات ثورة 14 فبراير تؤكّد سياسيًا وأخلاقيًا أنّ مطلب الاستقلال الثاني هو عينه مطلب حق تقرير المصير الذي يجب أن يكون أرضيةً وقاعدةً لكلِّ مُناكفة سياسية. ومعنى ذلك أنّ الصراع سيدوم أكثر مما توقعه البعض، وفي الوقت نفسه فمُعطيات الواقع من شأنها أن تُفشِل أيَّ محاولة التفاف، أو صيغ سياسية باهتة تُعيد رقعة الاستبداد وهيبته مجددًا، فجدار الخوف والعُزلة قد تلاشت حجارته، وأصبحت طيّعةٍ في يد الحراك الميداني.
*كاتب بحريني.