الإنتلجنسيا في البحرين ومواقفها من حركة 14 فبراير
يوسف مكي - 2012-07-28 - 8:54 ص
يوسف مكي*
منذ 14 فبراير 2011 وحتى الآن، ونحن في النصف الثاني من 2012 وبعد مرور أكثر من سنة ونصف على انتفاضة الشعب البحريني فإن النظام الحاكم ما زال ممعناً في خياره الأمني في مواجهة الانتفاضة، والأصح في مواجهة خاطئة مع قضية سياسية اجتماعية ثقافية عادلة بامتياز، هي قضية الثورة، بما هي مشروع مستقبلي بديل للنظام الذي فات أوانه ولمشاريعه الالتفافية عليها.
وفي ضوء هذا الوضع المزحوم والمليء بالمواقف المتناقضة والمتضاربة، والذي تعيشه البحرين، وهو وضع تخترقه السياسة طولا بعرض لا يمكن تجاهل المسألة الأخلاقية في الثورة البحرينية. ففي الوقت الذي تبرز فيه المواقف المؤيدة والمعارضة للثورة باعتبارها مواقف سياسية معلنة، فإنها في الوقت نفسه تعبر عن مواقف أخلاقية مضمرة في الغالب، وصريحة في بعض الأحيان، ومهما حاولنا في تغليب السياسي على الوقائع والأحداث، فإنه لا يمكن إخفاء أو التملص من البعد الأخلاقي للسياسة ولمواقفنا.
وما هذا اللغط والجدل والقيل والقال والنقاشات والحوارات والمناكفات والاتهامات والاتهامات المضادة والفزعات السياسية والاجتماعية من هنا وهناك وبروز جماعات وجمعيات وأفول أخرى وتحت أسماء وهمية أو حقيقية وظهور شخصيات واختفاء أخرى على المسرح الاجتماعي السياسي في البحرين، إنما تعكس كلها معضلة أخلاقية على الصعيدين الفردي/ الشخصي، والجماعي/ الاجتماعي، وهي معضلة أبعد من السياسة. إنها تعكس تمزقا وصراعا أخلاقيا بين واقع الحال وما ينبغي أن يكون، وفي نفس الوقت تعكس حجم التحولات الهائلة والعميقة في المواقف الأخلاقية تجاه ما يجري في هذا البلد.
لذلك لا غرابة أن يتجلى هذا الصراع الأخلاقي في أكثر صوره وضوحا على صعيد الإنتلجنسيا البحرينية (فئة المثقفين) في المواقف السياسية، التي هي بهذا الشكل أو ذاك تعبر عن موقف أخلاقي لا يخطئه الحس السليم.
فمن الملاحظ في مواقف الإنتلجنسيا البحرينية أنها في خطوطها العامة توزعت بين ثلاثة مواقف تجاه ثورة 14 فبراير وبطبيعة الحال تجاه النظام الحاكم.
الموقف الأول ظل وفيا ومواليا للنظام ويتبنى مواقف النظام، ويرى في الحركة الجماهيرية مجرد فئة ضالة وشرذمة خارجة على القانون والنظام ولا بد من إنزال أشد العقوابات بها وبقادتها ووسائل الاتصال والتواصل والميديا تعج بالكثير من هذه المواقف. والأخلاق كل الأخلاق بالنسبة لهؤلاء هي أن تقف إلى جانب النظام ضد أعدائه، ضد الثورة. ويمثل هذا الموقف تلك الفئة من المثقفين التقليديين والمحازبين للنظام والذين ينعمون بعطاياه ومكارمه المباشرة وغير المباشرة والمرتبط وجودهم المصيري به. وهؤلاء تاريخيا منسجمون مع أخلاقهم الموالية للنظام، وهي هنا أخلاق الطاعة وتفخيم وتعظيم الرموز، إنها أخلاق العبيد.
أما الموقف الثاني فيمثله تلك الفئة من الإنتلجنسيا التي كانت في صف الممانعة للنظام في يوم ما، لكنها تحولت بقدرة قادر إلى نقيض مواقفها، إلى مؤيدة وبشدة للنظام، لا بل مبررة لإجراءاته القمعية تجاه المنتفضين، وتطالب بالمزيد من العقاب. لدرجة أن مواقف هذه الفئة باتت تشيد برموز الحكم لا بل تجعلها في مصاف الآلهة، وأن كل ما تقوم به هذه الرموز (رموز الحكم) يمثل عين الحكمة وقد نهلت من معينها الذي لا ينضب. وأن ما تقوم به هذه الرموز الحاكمة من بطش إزاء المعارضين الذين كانت تنتمي إليهم هذه الفئة المتحولة إنما هو يمثل عين الحكمة والصواب.
هكذا يصبح القتل في التحولات الأخلاقية لهؤلاء المثقفين حكمة، ويصبح تعذيب السجناء تطبيقا للنظام ولابد منه، والتعرض للنساء والبيوت إجراء لإنفاذ القانون، والتنكيل بالأطفال يصبح إجراء من أجل مستقبل أطفال البحرين وفقا لرؤية هذه الفئة المثقفة والمتحولة من ذم النظام إلى مدح له، فئة من المثقفين تبحث لنفسها عن مكان في خانات النظام طمعا في عطاياه ورغبة في التحول من أخلاق الثائرين وأصحاب الضمير اليقظ إلى إخلاق العبيد الجدد أو اليسار الذي رضي لنفسه أن يكون من دعاة أخلاق الطاعة بدلا من أخلاق التمرد والثورة.
وبالمحصلة يتحالف المثقف التقليدي المرتبط تاريخيا بالنظام (الصنف الأول) مع المثقفين من الفئة الثانية (اليسار التائب والعائد إلى حضيرة النظام) ليشكلوا مكينة دعائية لتمجيد القبيلة وتسيوقها بالضد من الثورة وما تعد به من خلاص فردي وجماعي. وهكذا يتماهى هؤلاء مع أخلاق السادة لكنهم لا يصبحون سادة مثل أسيادهم إنما يظلون عبيدا من منظور أسيادهم أيضا، وعلى الرغم من مساندتهم للنظام وتعميم أخلاق الطاعة والتسويغ لها، ولكن هذا ما ارتضوه لأنفسهم حيث أخلاق العبيد أنسب لهم، وكتاباتهم ومواقفهم تؤكد ذلك.
بازاء هذين الموقفين/ الفئتين من الإنتلجنسيا البحرينية هناك فئة ثالثة تمسك العصا من الوسط وترقص على الأجناب. فتارة تضع رجلا في ساحة النظام وتارة في ساحة الثورة وتحاول أن توفق بين مالا يمكن التوفيق بينه، وهي بذلك أقرب إلى المواقف التلفيقية منها إلى المواقف التوفيقية، وهي تعمل بوجهين، لكنها في الحقيقة أقرب إلى النظام عندما يتطلب الأمر تحديد المواقف، أو يطلب النظام ذلك. إنهم يشبهون فئة المرجئة التاريخية في الثقافة العربية الإسلامية. ولكن هذه المرة في البحرين.
إن هذه الفئة من الإنتلجنسيا مهما كانت مواقفها المتذبذبة فإنها في التحليل الأخير تخدم النظام ولا تخدم الثورة لأنها ببساطة في المنعطفات التاريخية لن تقف إلى جانب التغيير بل إلى جانب النظام. وبذلك فهذه الفئة تتلاقى مع الفئتين الأخريين في الموقف الأخلاقي المؤيد للنظام، وبالضد من حركة الجماهير العادلة، فهي تريد أن تربح من الطرفين دون أن تخسر شيئا، إنها تمثل أخلاق النفاق إذا جاز القول، أو مع المنتصر، ولا يهمها من يكون.
أما الفئة الرابعة في الإنتلجنسيا البحرينية فتمثل الموقف الأخلاقي المنسجم مع منطق الثورة البحرينية. ويمكن القول إن هذه الفئة تشتمل على تلك المجموعات من بقايا اليسار والعلمانيين والقوميين واللبراليين والدينيين الذين لا زالوا متمسكين بمواقفهم المؤيدة للثورة وبشكل علني لا مواربة فيه، وربما يتحملون الكثير من الصعوبات في سبيل ذلك من قبل النظام. لكنهم مع ذلك ملتزمون موقفا أخلاقيا يميز بين الجلاد والضحية ويقف إلى جانب الضحية، ويقول الحق والحقيقة مهما كانت مكلفة، وهذا النوع من المثقفين هم الذين امتدحهم ادوارد سعيد في كتابه (صور المثقف)، حيث يغامرون بالكثير في سبيل صحوة الضمير ومساندة الحق، والوقوف ضد الظلم.
فيما يتعلق بهذه الفئة، قد يكون فيما بينها تباينات حول ما يحدث في البحرين لكنها بوجه الإجمال تمثل صوت الثورة ولسانها الناطق، كما تمثل الموقف الأخلاقي السليم المنسجم مع دور ووظيفة المثقف الحقيقي الداعي إلى ثقافة الحرية والعدالة والمساوة التي عبر عنها ادوارد سعيد، وبالعكس من ذلك نجد مثقف السلطة الداعي إلى ثقافة تأبيد الاستبداد والطغيان، وأخلاق الطاعة والعبودية، وبالتالي موت الضمير الأخلاقي.
*باحث بحريني متخصص في علم الاجتماع.