مرافعة النيابة ضد الشيخ علي سلمان: جرائم عظمى وأدلّة "سُفْلى"
2018-04-22 - 4:17 م
تعودنا في كلاشيهات صحف الإثارة الرخيصة والمجلات الفاضحة، أن تُلفتنا عناوين صاخبة توحي بحدث خطير أو غير مسبوق، ثم إذا قرأنا الخبر لا نجد غير كلام واهٍ لا علاقة له بالعنوان من قريب أو بعيد من مضمون هزيل مختلق، أو حشو مضحك وسخيف. تحدث هذه كثيراً في الإعلام الهابط الذي يتكسّب من الفرقعات الواهية، لكن أن تحدث في مرافعة تقدّمها النيابة العامة، يكتبها رجال قانون، فتلك رزيّة ما بعدها رزيّة.
في مرافعة النيابة العامة المقدّمة إلى المحكمة الكبرى الجنائية، حول قضية الشيخ علي سلمان وإثنين آخرين، والتي حصلت "مرآة البحرين" على نسخة منها، ستقرأ تهماً مرعبة، من النوع الذي يجعلك (تبقق) عيونك دهشة، التهم تأتي على هيئة كلاشيهات مفرقعة:
-
التخابر لدى دولة أجنبية أو التخابر معها للقيام بأعمال عدائية ضد البلاد.
-
تسليم وإفشاء أسرار الدفاع لدولة أجنبية أو إتلافها.
سنقرأ أيضاً تحت هذه عناوين الخيانة العظمى تلك، وقبل أن نلج إلى التفاصيل، عبارات تكلّفت النيابة فيها باستخدام أقذع عبارات التجريم والتخوين والتردّي، قدّمتها باستعراض إنشائي لا يقلّ فرقعة عمّا سبق:
"ما وقع من المتهمين على نحو ما تجدون في الأوراق.. قد جاوزوا به مدىً شائن من الإجرام.. انحدروا به انحداراً هابطاً حينما أدركوا بجرائمهم النيل من أبلغ القيم وأجل المبادئ وأقدس الملاحم.."
"لم يفتأ المتّهمون يقترفون الجريمة بأنواعها، حتى توّجوا نزقهم الإجرامي بالخيانة"
"مهما تشدّق المتهم الأول أمامكم بدفاع يستدعي فيه نظرياته في العمل السياسي.. أو يخرج علينا بادعاءات متوهّمة، فلن يعفيه ذلك من سآمة تردّية في الجريمة... والتنسيق مع من أفنوا زمنهم ومآلهم لمحو وجه هذا الوطن، وإفقاده هويته والإضرار به.. لن يعفيه وبقية المتهمين أبداً من الخيانة"
"كذلك دأب الخائنين إذا دعاهم وطنهم وقادته ورموزه لإكرام أو حوار أو تقدير نبذوه استنكاراً، وإذا دعتهم قوى الشرّ لبّوا واستجابوا.."
حسناً، ما هي تلك الجرائم التي اقترفها هؤلاء المتّهمون بحيث لم يتركوا ملحمة مقدّسة إلا نالوا منها، ولا نزق إجرامي إلاّ تتوّجوا به، ولا سآمة إلا تردّوا فيها، ولا شرّاً إلاّ لبّوه واستجابو له؟ ما الخيانة التي يستحقّون عليها كل تلك التهم الكبرى والنعوت الإنشائية الاسقاطية؟
تقول النيابة:
"فلقد كشفت التحريات عن التجاء المتهم الأول [الشيخ علي سلمان] إلى التخابر مع دولة أجنبية للعمل على ما فيه تهديد سلامة البلاد وإسقاط النظام الدستوري من بينها دولة قطر. وبناء على ذلك تم رصد مكالمة هاتفية فيما بين المتهم الأول علي سلمان وأحد القيادات البارزة في دولة قطر هو حمد بن جاسم آل ثاني رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري آنذاك، وكانت تلك المحادثة بمثابة الدليل الرئيس على المخطط الإجرامي والمحدّد لوسائله، ومن ثم الكاشف عن أبعاده وأغراضه"
إذاً، فإن المكالمة المرصودة التي تمّ بثّها في تلفزيون البحرين هي "الدليل الرئيس" الذي استندت إليه النيابة في تهم الخيانة والتخابر وإفشاء الأسرار العسكرية. المكالمة التي تتوفر تسجيلاتها لدى الداخلية منذ مارس 2011، لكنها لم تشأ أن تكتشف أنها خيانة عظمى وتخابر وتهديد لسلامة البلاد واسقاط النظام الدستوري إلا في 2017 بعد أزمة الخليج.
حسناً دعونا نرى ماذا يوجد في هذه المكالمة المسرّبة؟
يرنّ الهاتف. يرفع رئيس الوزراء القطري الخط. يرحّب بالشيخ علي سلمان، ثمّ يقول له بأنه كان يتمنى أن يراه هناك (ما يوضّح أن لقاءاً قد تم بين رئيس الوزراء القطري وبين جهات مسؤولة في السلطة البحرينية)، ثم يكمل قوله بأنه قد حدثت "إشكالية"، ويردف: "لا تنسى أنه صارت هناك ضغوط كثيرة، يعني دون توضيح الأمور أكثر. نحن ذهبنا لمحاولة التخفيف من الضغوط من بعض الجماعة، بحيث أن يا جماعة، لا ندخل في موضوع القوة (درع الجزيرة)".
ويرد سلمان قائلا: "أي استخدام للقوة في اعتقادي سوف يؤزم الموقف ولن يحلّه".
فيرد ابن جاسم مؤكداً:"نحن لا نأمل في أن يصير شيء بالقوة، وهذا هدفنا الرئيسي، وأرجوكم تثقوا فينا، وأنتم تعرفون: نحن دائما صادقون معكم"
يجيب علي سلمان: نثق بكم وأنتم صادقون، لكن هناك ناس (الحكومة ومرتزقتها) يطلقون الرصاص في بعض المناطق، وذلك ليس أسلوبا ينم عن وجود رغبة في الحوار، بل يشير إلى رغبة في الضغط والإكراه، حوار وأنا ضاغط عليك بوجود الجيش وبوجود القوات الخليجية"
فيؤكد ابن جاسم أن ذلك سيتم إيقافه في نفس الوقت، ويقول أنه تكلّم حول ذلك، وحول موضوع التصعيد، ويسأله الشيخ علي سلمان: إلى متى باق الشيخ (يتّضح أنه موجود في البحرين)، فيجيبه: أنا جالس، سأنتظر تلفون منّك وبكلمهم وبقول لهم في إيش تكلّمنا، وبنتظر منك تفكرّ وترد علي.
يقول الشيخ علي سلمان: أريد أن أضعك في الصورة لقد كنّا قبل قليل مع فيلتمان ونحاول أن نجد حلول لهذا الواقع. ثم يخبره أن فيلتمان قال بأنه سيكلمه إذا كان موجوداً (في البحرين).
فيرد: بس السؤال هل أقدر أكلمه الآن وأقول له إن في شيء ممكن يعملونه الجماعة؟ ثم يقول لسلمان: خلني أكلمه وأرجع لك.
هذا تفريغ للمكالمة المبثوثة، أو ما أسمتها النيابة بـ"الدليل الرئيس"، والتي استندت إليها في تثبيت الجرائم (العظمى) التي رُصّعت بها لائحة الاتهام وملف الدفاع الخاص بها: "التخابر"، "الخيانة"، "تهديد سلامة البلاد"، "إسقاط النظام"، "المخطط الإجرامي"، "النزق الإجرامي بالخيانة"، "سآمة التردي في الجريمة"! وهي مكالمة أكّد الخبراء المختصّون أنّها أتت مقطّعة وملصّقة بالكيف الذي ارتأته النيابة العامة، وقد امتنعت الأخيرة عن تقديم التسجيلات الكاملة التي يطالب الدفاع بالحصول عليها.
المضحك أنه رغم ذلك، فإن كل ما جاء في المكالمة لا ينضوي تحت أي من كلاشيهات الخيانة العظمى التي وضعتها النيابة في ديباجتها المثيرة مثل صحيفة رخيصة. بل يُظهر أنه اتصال يأتي في سياق الوساطة القطرية بين السلطة والمعارضة لحل أزمة 2011 وتهدئة الوضع في البحرين، وأن هناك أكثر من طرف داخل في هذه الوساطة. والأمر الأكثر إضحاكاً أن هذه الوساطة لم تكن سرّاً، فحمد بن جاسم كان حينها في زيارة رسمية للبحرين، وهو ما أوضحته المكالمة عندما سأله شيخ علي سلمان: إلى متى باقي؟ وقد كان قادما البحرين من السعودية في سياق "المبادرة القطرية" التي وافق عليها ملك البحرين آنذاك لحل الوضع المتأزم في البلاد، والتقى بعدها الملك في قصر الصافرية. لكن الأمر الأكثر سخرية على الإطلاق، أن هذه الوساطة تناولها مفصلا تقرير لجنة تقصي الحقائق منذ 2011 باعتماد الملك، ومع ذلك لا تخجل مرافعة النيابة من اعتماد هذه المكالمة دليلها الأساسي على (الخيانة) و(التخابر)!
هل اكتفت مرافعة النيابة بهذا القدر من الفرقعات المخبولة؟ ليس بعد. لديها ما تقوله حول التهمة الأكثر إضحاكاً في ملف القضية وهي "بيع وإفشاء أسرار الدفاع". وهي تهمة تجعلك تسأل نفسك بمجرد سماعك لها: وهل يملك الشيخ علي سلمان ومن معه شيئاً من أسرار الدفاع أصلاً ليبيعوا شيئاً منها أو يفشوها، بل هل كان ليتسنّي لهم معرفة شيء منها وهي (الكانتون) المغلق عن توظيف الشيعة أصلاً؟ حسناً لنقرأ ما تقوله مرافعة النيابة حول ما أفشاه سلمان من أسرار الدفاع:
"إن المتهمين في إطار التخابر قد سلموا دولة قطر معلومات سرية ذات طبيعة عسكرية وأمنية تتمثل في معلومات وبيانات تتعلق بتحركات قوات الجيش والحرس الوطني والشرطة وقوات درع الجزيرة وأماكن تمركزها"
هنا يعجز اللسان عن الكلام. أهذا استهبال أم استخبال؟ أي (سرّ) هذا الذي يُفشى عن تحركات قوات درع الجزيرة وهي تجوب شوارع البحرين وتقطع مناطقها مستعرضة عضلاتها أمام كل البحرينيين وأمام كل العالم؟ أي (سرّ) صاخب هذا الذي تصدّر عناوين الصحف العالمية وكان صيداً سهلاً لكاميرات وكالات الأنباء؟ أي (سرّ) مكشوف هذا الذي يعرفه كل أحد وشاهده كل أحد دون استثناء؟ ثم أليست قطر هي جزء من قوات درع الجزيرة أصلاً؟
إن كان لهذه الفرقعات "السُفلى" أن تكشف سرّاً، فإنها تكشف مستوى الفجور الذي وصلت إليه النيابة العامة، صارت لا تستحي معه، أن تقدّم مثل هذا الهراء المُخجل والمُخزي تحت إسم مرافعة!