صبر مريم.. زفّة الحرية
2017-05-11 - 12:11 ص
مرآة البحرين (خاص): خمس سنوات كاملة، هي مدّة انتظار مريم شرف لابن عمها وخطيبها عبدالعزيز شرف. كان قد عقد قرانهما في 2009، واعتقل عبدالعزيز قبل 20 يوم فقط من التاريخ المقرّر لزواجهما، بينما هما في طور الإعداد له والسفر في مايو 2012.
لم يلزم مريم وقت طويل لتعلن موافقتها على الزواج من ابن عمّها الذي تعرفه منذ نعومة أظفارها. اشترطت أن يكون مهرها زيارة الإمام الحسين فقط، وفي عقد الزواج سُجّل المهر 100 دينار. لهذا قرّر عبدالعزيز أن يكون زفافهما في "كربلاء". حجز رحلة متكاملة مع إحدى الحملات الدينية وقام بدفع المبلغ. كان تاريخ سفرهما المقرّر 10 مايو 2012. بعد قرابة 3 سنوات من الخطوبة، إنها فترة طويلة استغرقاها حتى تمكنا من تجهيز أمورهما، لكنهما لم يعلما أنه ستضاف لهذه السنوات 5 أخرى غير محسوبة وغير متوقعة.
عبدالعزيز (35 عاما)، شاب هادئ، حديثه بالكاد يسمع، ابتسامته لا تفارق وجهه، يقول عن سبب تأخير زواجه آنذاك "لم تكن ظروفي المادية تسمح بالزواج في 2009، كنت أعمل بمرتب بسيط، كما أن أوضاع البلد لم تكن بخير، أحببت أن أرتقي في الوظيفة كي أستطيع تأمين مصاريف السكن، بقيت أجهز نفسي أكثر من عام، أفردت لنفسي شقة بسيطة في البيت القديم، كان قرارنا أن نسكن هذه الشقة. لم تكن غرفتي القديمة تصلح لعش الزوجية. قمت بتأثيث الشقة بالكامل وجهزتها". لا تتجاوز الشقة أن تكون غرفتين وصالة وصغيرة في ذلك البيت القديم، اختارت مريم مع عبدالعزيز ألوان طلائها وابتاعوا غرفة نوم وفرشوها بأثاث بسيط، وبقيت خطوة السفر لإعلان زواجهما.
في 20 إبريل 2012، وضمن احتفالات البلاد بفعالية الفورمولا 1، تم اعتقال عبدالعزيز بالقرب من دوار النويدرات بعد محاصرة سيارته هو و2 من أصدقائه الذين كانوا يرافقونه، أفرج عن أحدهم لاحقا وظل عبد العزيز والآخر.
كانت مريم يومها منشغلة في مركز الشرطة بمتابعة قضية ابن خالتها الذي اعتقل هو الآخر في اليوم نفسه. عند عودتها من المركز كان خالها في انتظارها يحاول التمهيد لها ليخبرها بالأمر، لكن شقيقتها سبقته: هل عرفت بأن عزيز اعتقل؟ "شكّل ذلك صدمة كبيرة جداً بالنسبة لي، خصوصاً وأنا في غمرة انشغالي بالإعداد للزواج، لكني تداركت سريعاً، ابتلعت غصتي وقلت نحن لسنا بأفضل من سائر عوائل المعتقلين، من جيراننا، وعائلتنا وجميع عوائل المعتقلين في البحرين".
في الأيام الثلاثة الأولى لاعتقاله، لم تعرف عائلته عنه شيء، بلغها لاحقاً أنه في مبنى التحقيقات، ثم نقل إلى سجن الحوض الجاف. لم يلبث أن وجهت لعبدالعزيز تهمة حرق جنائي. في فبراير 2013 صدر الحكم الأول بالسجن 5 سنوات، وجرت ثلاث جلسات استئناف جرى فيها تأييد الحكم، ثم حوّلت القضية لمحكمة التمييز التي أيدّت الحكم أيضاً.
"في زيارتنا الأولى له كان الجميع يبكي" تقول مريم، لم يكن الأمر سهلاً أبداً ولا متوقعاً، وهي التي كانت تتهيأ لتختلي معه في عش الزوجية بعد انتظار 3 سنوات، وليسافرا معاً إلى حيث المكان الذي تعشقه وكان شرطها الوحيد للزواج، لم تتوقع أن هذا الزفاف سيتم تأخيره خمسة أعوام كاملة. توقعت مريم أنه في أسوأ الحالات سيتم الحكم عليه بالسجن لمدة عامين. كيف ستنتظر مريم كل هذا؟ كيف لشبابها أن يحتمل كل هذا الفراق المحكوم بالعسف والبطش. الأحكام بالسجن 5 سنوات، 10 سنوات، 15 عاماً أصبحت أشبه بأوراق اليانصيب، توزع قسراً على الشباب البحريني الذي يطالب بحقه في بلده، كلّ ينتظر نصيبه من هذه الأحكام الجائرة، ولا عزاء للأعمار ولا للإِعمار. العمر سباق إنجاز محموم، إلا هنا في البحرين، كل شيء مهدّد بالقطع، خائف يترقب، واقف كالموت، كذلك الإنسان حياته وشبابه ومستقبله.
كان جواب مريم على محنتها الصبر، اهتمت في كل زيارة لعبد العزيز أن تظهر له أنها لن تتخلّى عنه وأنها معه حتى النهاية. لكن مريم في داخلها لم تتوقع أن يقضي عبد العزيز سنوات السجن كاملة. هو كذلك. كانا يتأملان أن ينفرج الوضع ويخرج قبل انقضاء المدة: "في المعتقل دائما لدينا أمل أنه في أية لحظة سيُفتح باب السجن ويدخل الفرج. هذا الشعور لا يبرح تفكير المحكومين بسنوات طويلة، ولا يستثنى منه المحكومين بعام واحد أو أشهر قليلة. الجميع يسكنهم هذا الأمل، يصل عند البعض حد اليقين، كنت أنا منهم، لكني أكملت مدّتي ولم يأت الفرج بعد" يقول عبدالعزيز.
حاولت مريم خلال تلك السنوات أن تُبعد الحزن من حياتها، وتستبدلها بالترقب والانتظار الإيجابي: "أؤمن أن الحزن لن يقدّم شيئاً ولن يؤخر"، ظلّت تفتقد وجود عبدالعزيز في تجمّع العائلة خصوصاً يوم الجمعة. الجميع يفتقده. تحب مريم أطباع عبدالعزيز "حنون، طيب، حباب، اجتماعي، مرح مع الجميع، يرسم البسمة على كل وجه، كان يحب خدمة أهل قريته".
في السجن لم يتخلّ عبدالعزيز عن طبعه الأخير: خدمة الآخرين: "خدمة زملائي المعتقلين كان من أحب الأشياء إلى قلبي". تعلّم عبدالعزيز علم التجويد وأصوله على يد معتقل جنائي بحريني اسمه "مرسيل"، تابع معه حفظ القرآن الكريم، وتمكن من حفظ الأجزاء 28- 30. صار عبدالعزيز ينزوي أكثر في المسجد لقراءة القرآن وقد لاحظ بعض السجناء ذلك، فطلبوا منه تعليمهم القراءة الصحيحة للقرآن. تردد عبدالعزيز في البداية لكنه قبل فيما بعد. بسبب حضوره الدائم في المسجد، وثقة الشيخ عبدالرحمن "مدرس القرآن في السجن" به، أُعطيت له مسؤولية المسجد وصلاحية تدريس القرآن فيه.
هذه الخطوة جعلته يندفع إلى تعّلم طريقة قراءة القرآن وتعليمه ويملأ وقته بجهد محبّب إليه لم يشعر معه بطول مدة مكوثه في السجن، "كنت أعطي نوعين من الدورات، بعضها مختصر للمعتقلين الذين ستنتهي مدة محكوميتهم، وبعضها طويل بحسب مدة بقائهم في السجن". مسؤولية المسجد تتيح لعبدالعزيز الخروج حتى وإن كانت العنابر مقفلة.
خلال الـ3 شهور التي قضاها المعتقلون في الخيم بعد أحداث 10 مارس في سجن جو لم يتوقف عبدالعزيز عن دروس القرآن عدا الأيام الأولى التي ما كان ممكنا لهم فيها فعل شيء غير العذاب. "افتقدت الأقلام والأوراق التي كنت اعتمد عليها في تدريس القرآن، مع ذلك لم أتوقف، كنت اعتمد على ذاكرتي، وللكتابة استخدمت حافظات (الفلين) الخاصة بالوجبات، أو قطع الكارتون التي تأتي مع الملابس الداخلية الجديدة، وجدت قلما مكسورا نزعت حبره وقمت بالكتابة به على الفلين، وصرت أدرس القراءة الصحيحة في الخيمة وأحكام التجويد".
كلما اقترب موعد خروج عبدالعزيز تراءت له عروسه مريم، اتمام زواجهما هو أول ما يريد القيام به دون تأخير. تقول مريم "في الزيارتين الأخيرتين في السجن تحدثنا مع بعضنا عن أمور إتمام الزواج وحياتنا، كان يردد ويؤكد لي "أنا على الوعد إن شاء الله"، فهمت أنه يقصد السفر كما قررنا قبل سنوات خمس".
تكمل مريم: "قبل شهر من خروج عبدالعزيز من السجن، استأجرتُ شقة خاصة بنا، لم تعد الشقة التي أعدّها عبدالعزيز قبل خمس سنوات مناسبة للسكن، البيت قديم ولم يعد مناسباً لأحد أن يسكن فيه، قمت بتأثيث الشقة ونقل الأثاث بمساعدة والدتي ووالدة عبد العزيز، عملنا على تجهيزها بكل اللوازم"
وأخيراً جاء يوم 19 أبريل 2017. كانت مريم هي أول وجه شاهده عند خروجه من مبنى التحقيقات الجنائية عند الساعة الثانية ظهراً. تفاجأ بذلك، فهو لم يتصل بها بل أخبر إخوته، لم يكن يريدها أن تقطع كل هذا الطريق وتقف لساعات في هذا الطقس الحار، لكنها أصرّت أن تكون هي أول من يستقبله. وقفت بمعية والدتها منذ الصباح الباكر دون أن يرمش لها جفن تعب، لم يكن معها غير الشوق.
"عشية انقضاء محكوميته، جهزت قلادات الورد، ومنذ الساعة السابعة صباحاً خرجت ومعي والدتي. حدثت نفسي: لن أدخل البلدة إلا وعبدالعزيز معي. عندما وصلت مبنى التحقيقات لم أجد مكانا أوقف فيه سيارتي لذا ركنتها في الماحوز، صلينا الظهر وبقينا ننتظر الاتصال من التحقيقات، كنت اتواصل مع شقيق زوجي حتى أعرف إن كانوا اتصلوا بهم أم لا، وحين علمت بالاتصال أخبرت شقيق زوجي أني متواجدة عند مبنى التحقيقات مع والدتي وسنقوم باستلامه".
بعد خروج عبدالعزيز وصل أخوه وصديقه، أصرت مريم أن يركب معها في السيارة كي تأخذه إلى المسجد ليؤدي صلاة الشكر أولاً. "لم تتوقف الاتصالات الهاتفية طوال الطريق، كنت أشعر بأن السيارة لا تمشي على الأرض، وكأني أقودها في الهواء، كنت أريد أن أوصله لوالدته كي تفرح به".
بعد انتهائه من أداء صلاة الشكر في أحد مساجد سترة، التم الشباب حوله وساروا خلفه في موكب زفاف بالسيارات حتى وصل منطقته العكر، وهناك كانت المفاجأة "جموع الأهالي المنتظرين عند مدخل البلدة: رجال، شباب، نساء وبنات، لم نتوقع أبدا أن يقف له هذا الكم الهائل من الناس في حر الشمس والظهيرة عند الساعة الثانية والنصف ظهراً"، تقول مريم "فرحت كثيرا عندما شاهدت الأهالي تستقبل عبدالعزيز، شعرت وكأنهم يستقبلوني أنا أيضا، شعرت بالزهو، الرجال والنساء يحملون سعف النخيل ويزفّون عبد العزيز، الشباب حملوه فوق أكتافهم، تلك اللحظات مسحت همّ السنوات الخمس الفائتة وحزنها وألمها وصبرها، كانت الناس تقول: هذي زفة العرس وزفة الحرية. كان مشهدا مؤثرا جدا، وهكذا اكتملت زفة عرسنا في يوم حريته".