حسين القصاب: خرجت مسجوناً بالبراءة، محكوماً بالعجز، وأملي في العلاج..
2016-10-25 - 8:11 م
مرآة البحرين (خاص): لقد نال حكم البراءة من التهمة التي نسبت إليه بعد أن لاقى تعذيباً وحشياً، وقضى في السجن قرابة 6 أشهر، لكن ليت الأمر انتهى هنا، ذلك أن حسين القصاب (38 عاماً) خرج من السجن محكوماً بسجن من نوع آخر، سجنٌ أشد قسوة من الأول وأكثر بؤساً، لا يعرف كم من السنين عليه أن يبقى في هذا السجن الجديد، ما إذا كان سيقضي فيه سنوات قليلة أو مؤبداً، لقد خرج حسين من السجن الأول مقعداً عاجزاً، بعد أن أُدخل إليه وهو في كامل صحته.
أب لثلاث زهرات: جنان (8 سنوات) وفاطمة (6 سنوات) وأبرار (4 سنوات)، تلاشت كل أمنياته وأمنيات أسرته التي كانوا يحلمون بها معاً، صار حلمهم الوحيد أن يعود حسين قادراً على المشي، أن يغادر ذلك الكرسي المتحرك، أن يستغني عن ارتداء (الحفّاظ) الذي صار ملازماً له، وأن يعود إلى عمله ليعيل أسرته التي لا عائل لها سواه.
اكتُشف فيما بعد أن حسين قد أصيب بمرض عرق النساء، أو ما يعرف طبياً بألم العصب الوركي، وهو مرض ما لم يتم علاجه كما ينبغي، يؤدي إلى ضعف العضلات التي تغذيها تفريعات العصب الوركي وضمورها، لكن حسين وبدلاً من معالجته في السجن، بقي يتلقى المهدئات والمسكنات فقط. ربما يكون هذا ما تسبب في ضعف عضلاته بهذا الشكل الذي وصل إليه الآن، أما عن علاقة هذا المرض بالتعذيب الذي تعرّض له، فلم يحصل على جواب واضح حتى الآن، كل ما يعرفه حسين وعائلته أنه قبل هذه الحادثة، لم يكن يعاني من أي شيء.
منذ ما يزيد عن العام، وحسين ما زال ينتظر رأي اللجان الطبية في حالته، معظم الأطباء الذين عُرضت عليهم حالة حسين أفادوا أنه لو تلقى العلاج المناسب منذ بداية إصابته لما تفاقمت حالته، ولما وصل إلى هذه الحالة من العجز. سافر حسين للعلاج في إيران ثم كيرلا، جميعهم أخبروه بأن كل شيء يمكن أن يعود لطبيعته لو تلقى العلاج اللازم الذي يتطلّب وقتاً. لكنه لم يستطع الاستمرار بسبب التكاليف المادية الباهظة. قبل فترة قصيرة عاد حسين من رحلة علاجه في كيرلا، الظروف المادية حالت بينه وبين مواصلة العلاج رغم الوتيرة المتسارعة والتحسن الملحوظ الذي ظهرت آثاره على رجله اليمنى؛ إذ استطاع تحريكها بمقدار بسيط بعد أن كانت عاجزة تماماً. يتمنى حسين أن يستعيد صحته، ويرى أن من واجب الدولة التكفل بنفقات علاجه، وهو ينتظر الآن رأي الأطباء في " التشيك" ليواصل علاجه.
عرض بعض المحسنين على حسين شراء كرسي الكتروني له كي تسهل حركته، لكنه أجابهم: "لست بحاجة إلى كرسي يعينني على عجزي، أنا بحاجة لعلاج يخرجني منه، وأنا أعلم أني قادر على تجاوز عجزي هذا، من يريد مساعدتي فليعنّي على تكاليف العلاج حتى أتمكن من استعادة عافيتي وإعالة أسرتي من جديد".
ما حكاية حسين القصاب؟
في يوم الحادثة 14 فبراير 2015، كانت منطقته أبو صيبع تشهد احتجاجات بذكرى ثورة 14 فبراير. عاد من عمله ظهراً وذهب كما هي عادته لتناول الغداء في بيت والده مع إخوته وعائلته، وفي حوالي الساعة الرابعة خرج من بيت والده قاصدا بيته الذي يقع في ذات المجمع الصغير. أمتار قليلة لا تتجاوز الخمسة، هي كل المسافة بين البيتين، يجمع بينهما سوراً واحداً، وبوابتين واحدة أمامية والأخرى خلفية، وبينهما مجموعة كراجات للسيارات، لم يكن حينها والد حسين قد وضع باباً على البوابة الخلفية بعد.
لم يكد حسين يضع الخطوة الأولى على عتبات بيت والده خارجاً، حتى تفاجأ برجل أمن في وسط الحوش يصرخ: "توقف.. لا تتحرك". توقف من فوره بعد أن شاهده مدججاً بالسلاح والشوزن، لحظات ودخل خلفه 4-5 أفراد من قوات الأمن من البوابة الخلفية المفتوحة. أحاطوا بحسين ورفعوه قرابة متر واحد عن الأرض ثم ألقوه بقوة على الأرض. غاب حسين عن الوعي ولم يعلم ما يدور حوله، لكن عائلته شاهدت القوات وهم يشبعون جسده بالضرب المبرح والعشوائي ظنّاً منهم أنه يتصنّع ذلك. حاولت عائلة حسين الخروج لنجدته لكن رجال الأمن منعوهم ولشدّة الخوف لم يقم أحدا منهم بتصوير ما حدث.
أمسك الشرطي حسين من رقبته (كما هو واضح في الصور التي التقطت له وانتشرت في وسائل التواصل المجتمعي) وصار يجره والأخير يسحب رجله التي لم يكن يشعر بها.
كان في حالة من الذهول واللاوعي لما يحدث له وما يدور حوله، أخرجه رجال الأمن من داخل البلدة مشياً أو سحباً، إلى خارجها حيث باحة التجمع الخاصة بهم، وهي مسافة طويلة. ثم انهالوا عليه بالضرب مرة أخرى في جميع أنجاء جسده. عندما أفاق حسين تعجب كيف قطع كل هذه المسافة ووصل هذا المكان. كان رجال الأمن مازالوا يحضرون المزيد من الشباب ويوسعونهم ضرباً ثم يركبونهم سيارات الأمن. بقي حسين ملقى على الأرض لا يكاد يعي ما يدور، سكب أحدهم قنينة ماء على وجهه وأذنه كي يستفيق وسحبوه نحو السيارة.
عندما استعاد حسين وعيه داخل مركز البديع، كانت الكدمات تغطي كل جسمه ووجهه، وقد انشقت شفته السفلى وصارت تنزف، فيما تفاجأ من الكدمات العديدة على رجله اليمنى وأنه لا يشعر بها بالمرة، ولا يعلم بماذا قد تم ضربه عليها حتى أفقده الشعور بها إلى هذا الحد.
كانوا قد أحكموا تضييق القيد البلاستيكي على يدي حسين إلى الحد الذي لم يتمكنوا من فتحه، وقد ضغط القيد على يده لدرجة شعر معها أن الدم لم يعد يصل لمعصمه، حاولوا كثيراً فتحه ولم يفلحوا بسبب ضيقه الشديد، حتى اضطروا إلى إحضار مقص أظافر لقطعه أخيراً.
تفاجأ حسين عندما وصل لمركز البديع بالشرطي وهو يخاطبه: "أحد يضرب ضابط؟ ويعض شرطي؟" أنكر حسين متعجباً: "لم أضرب أحدا، ولم أعض أحدا"، ومن فوره لاحظ الابتسامة ترتسم على وجه أحد الشرطة هناك، وكأنه قد نجح في قلب الحقيقة ضده. ومن هنا صار حسين متهماً بالاعتداء على رجليّ أمن!
ولشدة النزف الذي عانى منه حسين أخذوه إلى مستشفى السلمانية، وقاموا بخياطة الجروح في وجهه وشفته السفلى، وأعطوه مسكنات للألم، ثم أرجعوه إلى المركز مرة أخرى، وكتبوا المحضر، ليلتها لم يتمكن من النوم من شدّة الآلام التي هتكت جسده بالكامل، ركبته اليمنى وكتفه وخاصرته اليسرى وصدره وظهره وآلام في قدمه اليسرى بأكملها.
في صباح اليوم التالي، كان حسين يتوقع أن يأخذوه إلى النيابة العامة، لكن تم نقله إلى مستشفى القلعة، فقد كان في حالة مزرية من الألم وكان يشكو إليهم طوال الليل. وعندما شاهد طبيب القلعة حالته أمر بإبقائه هناك، ظلّ حسين في مستشفى القلعة 11 يوماً.
يقول حسين: "كان طبيب القلعة يزورني بين فترة وأخرى، وفي كل مرة يستجوبني: لماذا أنت هنا، ما الذي أتى بك إلى هنا؟، في مستشفى القلعة كنت أشعر بثقل في رجلي اليمنى، لا أستطيع المشي عليها، ألاقي صعوبة كبيرة في الذهاب إلى الحمام، كان بعض الشرطة يقفون بجانبي يساعدوني في الوصول إلى الحمام".
عندما رأيت وجهي في مرآة مستشفى القلعة..
لم يدرك حسين بشاعة الحالة التي صار عليها حتى رأى وجهه في مرآة حمام مستشفى القلعة: "صعقت من شكلي، لم يكن ذلك الذي رأيته وجهي، كنت أعلم بأن مستشفى السلمانية خاطوا جروحي، لكن لم أتصور هذه الصورة البشعة، كان كل شيء فيه متورماً وملوناً، شفتي اليمني انقسمت نصفين، آثار الضرب والكدمات ملأت جسدي.."
بعد أسبوع أخذوه إلى الطبيب الشرعي الذي اكتشف إصابته في الخصيتين، وبعد حوالي 11 يوما نقل إلى سجن الحوض الجاف، وهناك صار يتعالج عن ركبته اليمنى: "كانت آلاماً لا تحتمل، كانوا يعطوني حبوبا مسكنة للألم وبعض الحقن التي تسكن الألم لفترة بسيطة وبعدها يعود" يقول حسين.
في أول جلسة محاكمة له في 10 مايو 2015، أجبر حسين نفسه بالذهاب للمثول أمام القاضي، يومها سقط فوق السلم نتيجة عدم مقدرته على الارتكاز على قدمه، وقد تشذّبت يده، وأخبر عائلته عندما اتصل بهم أن يطلبوا من المحامي الحصول على تقرير طبي ورفع رسالة للقاضي أنه لا يستطيع الحضور مجدداً لجلسات المحاكمة فقد كان متعباً جداً ونفسيته سيئة تماماً. "كنت أعاني عندما يأخذوني إلى المحكمة أو النيابة، وكثيرا ما تعرضت للسقوط إذ أصبحت رجلاي لا تساعداني على الحركة، في بعض المرات عندما أخذوني إلى المحكمة سقطت أثناء نزولي على الدرج الخاص بنقل المعتقل وتلقفني أحد رجال الشرطة هناك، وفي المرة الأخرى تعرضت للسقوط في النيابة العامة، كان حذائي يسقط من رجلي دون أن أعلم لأني فاقد للإحساس بها، وبالرغم من أني كنت أخبرهم بعدم قدرتي على المشي إلا أنهم لم يكونوا يصدقوني". في مايو 2015 اتصل حسين وطلب من عائلته شراء حذاء طبي لكون النعل ينتزع من قدمه بشكل لا إرادي دون أن يحس به، ناهيك عن عدم مقدرته على الارتكاز عليها.
يضيف: "كان المحقق في النيابة يكذبني عندما أقول له بأنني كنت واقفا أمام بيت والدي، لكني أصررت على ذلك وشهد بذلك كل من كانوا داخل البيت".
كان وضع حسين يزداد سوءاً في أوقات الزيارة، لأنه يضطر للوقوف طيلة الوقت لكي يستطيع سماع صوت عائلته عبر الحاجز، كان يستعين بزملائه في نقله إلى مكان الزيارة، وخلال الزيارات اشتكى لعائلته تضاعف آلامه وعدم قدرته على المشي، وأنه بدأ يزحف كي يدخل الحمام، " في الحوض الجاف صرت اعتمد على زملائي في الدخول إلى الحمام وفي التنقل للزيارة، أحياناً قليلة يوفرون لي كرسي متحرك، وغالبا أعتمد على زملائي، ساءت حالتي كثيراً في سجن الحوض الجاف وأهملوا حاجتي الملحة للعلاج، بعض الأوقات لم يكونوا يسمحوا لي بالذهاب إلى العيادة والأعذار كانت واهية"
يكمل حسين: "في الأيام الأخيرة لي بسجن الحوض الجاف كنت أعتمد على يديّ في الحركة. ألصقها بالجدار وأزحف، لقد فقدت الإحساس بكلتا رجلي، حاول زملائي مساعدتي وطلبوا من إدارة السجن نقلي إلى المستشفى، لم أكن أشكو من أي مرض قبل اعتقالي كنت شابا قويا صحيح الجسم"
تشخيص الطبيب عيسى الشروقي: حالة بسيطة ينقصك فيتامين "د"
في نهاية شهر مايو تم نقل حسين إلى مستشفى السلمانية، أعطوه حقنا فقط ثم أرجعوه، "لا زلت أتذكر أن ساعة السجن تشير إلى الثانية صباحا، استقبلني الوكيل هناك وطلب مني لبس الإزار، بعدها طلب مني الوقوف والجلوس 11 مرة متتالية، لم أتمكن من إكمالها، سقطت على الأرض في العاشرة، لكن الوكيل لم يأبه لذلك وطلب مني القيام والجلوس مرتين أيضاً، هذه الطريقة يتبعها مسؤولي السجن عندما يريدون تفتيش المتعقل، إنهم يمارسونها في أي وقت، إضافة إلى ممارستها أثناء عودة المعتقل من الزيارة أو من المستشفى".
بعد ثلاثة أيام نقل حسين مرة أخرى إلى مستشفى السلمانية بعد أن تيقنوا أن حالة رجله صارت متردية، "هناك في السلمانية فحصني الطبيب الهندي وأمر ببقائي في المستشفى، وعلى إثرها حولت إلى قسم العظام. زارني الكثير من الأطباء، لكنهم لم يستطيعوا تشخيص حالتي". يكمل حسين: " بعد حوالي 10 أيام زارني استشاري الأعصاب الدكتور عيسى الشروقي، لم تكن زياراته منتظمة لي، كنت دائما أسأل عنه، وفي كل مرة أعطى أسباب من قبيل أنه مسافر، في إجازة، وهكذا، كان تشخيصه لي بأن حالتي بسيطة وأنني أحتاج كبسولات لفيتامين "د" فقط وبعدها أعود للسجن. قلت له: "إذا تمكنت من المشي، حينها أرجعوني إلى السجن".
يكمل حسين: "في بداية شهر يوليو قاموا بتركيب أنبوب للبول، وبدأت ألبس الحفاظة التي مازالت تلازمني حتى الآن لأني لم أعد قادراً على التحكم بنفسي"، وقد انتكست حالته نهاية الشهر بحيث أصبح عاجزا تماما، إلى الحد الذي لا يستطيع رفع رقبته، ولهذا نقل بالسرير إلى لجنة التظلمات التي زارته في المستشفى بعد إخلاء سبيله. في بداية شهر أغسطس صار حسين يعتمد على الكرسي المتحرك بعد أن تعرض للسقوط في حمام المستشفى.
"مكثت شهرين في قسم العظام وبعدما أخلي سبيلي في نهاية شهر يوليو 2015 تم نقلي مباشرة إلى قسم الأعصاب، كنت متيقنا من أن الأطباء يعرفون بأن حالتي تستدعي قسم الأعصاب لا العظام، في قسم العظام لم أحصل على علاج منتظم، ولم تكن هناك جلسات منتظمة للعلاج الطبيعي. في قسم الأعصاب مكثت حوالي شهر، أخبروني بأنني مصاب بالتهاب فقط وتخثرات في الرأس وأسفل الظهر، وضعف في الأطراف، حاولنا الالتقاء بالطبيب لمعرفة ما أشكو منه، لم نحصل على إجابة سوى تقرير يذكر ما أعاني منه فقط دون ذكر تفاصيل وأسباب ذلك".
البراءة مقابل العجز..
يروي حسين معاناته التي يعيشها منذ أكثر من عامين: "حصلت على الحكم بالبراءة في أكتوبر 2015، لكني ما زلت مسجوناً في كرسي حديدي، فقدت عملي منذ أن أصبحت عاجزا ومُقعدا، كنت أعمل سائقا في إحدى المغاسل، الآن أكمل عامين بلا عمل ولا معاش، لدي ثلاث بنات وزوجتي، لا يوجد لدي سوى علاوة الغلاء والسكن اعتمد عليهما في تدبير أمورنا. لا أستطيع سياقة السيارة، كنت في السابق أقوم بتلبية ما تحتاجه أسرتي الصغيرة وكذلك والدي، حتى من هم خارج نطاق عائلتي كنت أساعدهم وأخدمهم، أصبحت الآن عاجزاً تماماً".
يكمل حسين: "في داخل البيت صرت اعتمد على زوجتي في كل شيء، وقد اضطررت إلى تغيير باب الحمام وجعله أكبر حتى أستطيع دخول الحمام بمفردي وتخفيف العناء عن زوجتي، صرت ألبس الحفاظة لوحدي، أحاول قدر الإمكان أن أعتمد على نفسي. في مقدمة البيت وضع والدي لي منحدرا من الخشب حتى أستطيع النزول والصعود بسهولة، لكن بعض الأحيان وعندما أكون بمفردي لا أستطيع غلق الباب لولا مساعدة أخواتي وأخوتي".
يردف: "بناتي فقدوا والدهم الذي كان يصطحبهم إلى أماكن اللعب والترفيه، كانوا يحبون الذهاب إلى البحر. الآن تعلمت زوجتي السياقة، وصرت اعتمد عليها في توصيل بناتنا للمدرسة وقضاء كل حوائجنا، صار الضغط عليها مضاعفاً". يكمل "في السابق كنت أنا من يحضر العشاء لبناتي ولوالدي، كنت ألبي رغبات بناتي فيما يشتهون، الآن أصبح الأمر غاية في الصعوبة، كما أن الحالة المادية باتت تتحكم فينا وفيم يمكن أن نتناوله".
يواصل حسين سرد معاناته: "من أصعب المواقف التي مرت علي عندما مرضت زوجتي فجأة، كنت أنا وبناتي معها فقط، رأيتها كيف تعاني، استنجدت بوالدتي، جاء إخوتي وأخواتي ونقلوها للمستشفى، كنت خائفا جدا عليها، جلست انتظر مع بناتي في البيت، كان عجزي يقتلني، اتصل بأختي كل لحظة، وأحاول من الناحية الأخرى تهدئة بناتي الصغيرات وطمأنتهن بأن والدتهن بخير حتى يتوقفن عن البكاء، كم هو مرير أن لا تكون أنت من يحتوي زوجته في مثل هذا الموقف"
"لم اعتد على التقيد في مكاني، وكثيرا ما كنت أنسى وأبادر بالحركة لكنني أتذكر بأني عاجز لا أستطيع الحركة، ومع ذلك كنت ولا زلت أحاول الاعتماد على نفسي في الحركة بالكرسي المتحرك، لذا صرت أذهب إلى البقالة بمفردي، يخجلني طلب المساعدة من أحد رغم أن أهلي يرحبون بذلك ويتمنونه علي، عندما احتاج للذهاب إلى سحب النقود من الصراف الآلي، أقطع مسافة حوالي نصف كيلومتر لأصل إلى مجمع الكونتري مول بمفردي، لا أخبر أحداً لأن أهلي يخافون علي كثيراً، إذ أن الطريق بعضها معبد وبعضها لا، كما يوجد بعض المنعطفات التي قد لا يلحظ السائق وجودي، لكني أريد الاعتماد على نفسي، ولا أحب أن أثقل الآخرين بطلباتي"
بناتي الصغيرات.. فقدن مرحهنّ..
يضيف حسين: "منذ اعتقالي لم تشاهدني بناتي واقفا وأمشي، ذات مرة كنت عائدا من جلسة العلاج الطبيعي، استخدمت العكاز الرباعي، لم يصدقن المشهد، صرخن فيما بينهن: "البابا يقدر يمشي!!!". فقدت بناتي المرح واللعب الذي كان بيننا، الآن وأنا على الكرسي صرت أتناسى ذلك، أحاول احتضانهم حتى وأنا على الكرسي، لا أريد لهنّ أن يشعرن بالنقص والحرمان، أفعل كل ما أستطيع لسعادتهم، هنّ متفهمات لوضعي جداً، لا يطلبن مني ما هو دون قدرتي"، يكمل "،كثيرا ما أتردد عندما أحتاج لشيء وبالرغم من أن كل المحيطين بي يتمنون مساعدتي لكني أخجل وأتردد من سؤالهم، أخجل من طلب توصيلي لمكان ما، أو مساعدتي في بعض التمارين التي لا أستطيع القيام بها لوحدي، في العادة أطلب من زوجتي، وإن لم تستطع انتظر، حتى زوجتي صرت أخجل منها لكثرة الضغوط التي صارت تثقل كاهلها. دائما أحدث نفسي " أخ يا حسين الدنيا وين راحت بك، أخذت حسين وراء الغيوم" لكن الأمر بيد الله، إن أراد لي أن أعود، سأعود".
بكت زوجة حسين كثيرا، انتظرناها لما يقارب العشر دقائق حتى تستطيع الحديث، بدأت حديثها بـ "الحمد لله ماذا أقول، صعبة، صعبة، ماذا أقول.... أصعب ما أعيشه الآن هو بناتي، صاروا يحلمون بوالدهم وبعودته إلى طبيعته، أن يستطيع المشي كالسابق، عندما عاد من رحلة العلاج، كانوا قد وضعوا في أذهانهم أن والدي سيعود إليهم وهو يمشي، صاروا يكثرون من الأسئلة حول حالة والدهم، أتحير كيف أجيبهم، كيف أفهمهم، أن والدهم لا زال لا يستطيع المشي".
تكمل: "أنا لا شيء بدون حسين.. لا شيء.. كان في السابق يقوم بجميع أعباء المنزل، منذ أن مرض أشعر....... ".. تبكي ولا تستطيع إكمال حديثها..
تضيف بعد برهة "دائما ما يردد حسين: أنا لو أمشي، لكانت حياتكم غير، لن يصيبكم ما تعانون منه الآن.. أصبح حسين حساس وعصبي، يصر دائما على الخروج لوحده بالكرسي المتحرك، ذات مرة أصررت على مرافقته عندما أراد الخروج، وكأن قلبي كان ينبئني بما سيحدث، فقد عادت سيارة كبيرة للخلف وكادت تدهسه، كان حسين يضرب بكلتا يديه على السيارة لكن السائق لم ينتبه.. ولولا ستر الله لحدث ما يخشى منه عليه"..