» رأي
رسالة إلى ابنتي (العذراء)
مقالات أخرى - 2012-02-22 - 3:15 م
رسالة إلى ابنتي (العذراء)*
نائل محمد
عندما كنت طالباً في المرحلة الابتدائية، كانت مادة القراءة محببة إلى قلبي لاختلاف مواضيع كتابها، وما يحمل في طياته من دروس وحكم ومواعظ لا تعدو أن تكون مجرد مواضيع تعليمية منهجية للقراءة.
من ضمن هذه المواضيع كانت مقتطفات للأديب العربي الكبير أحمد أمين من رسالته لابنه في انكلترا عام 1950، ينصحه فيها ويوجهه بأبوة وصداقة كونه يدرس في الغربة. في تلك اللحظة وذاك العمر من مراحل حياتي، خالجني إحساسٌ بأني أبٌ يكتب لابنه، وتخيّلت أنه كيف بي لو كنت مكانه وحكم عليّ الدهر أن أفارق ابني وأن أتركه في الغربة..!
ولكن.. إنه العلم والتحصيل الذي يرفع رأسي ويزيد فخري بابني.. وفي كل الأحوال، أبعدت هذا الشعور عن مخيلتي الصغيرة كي لا يكون عبئا يثقل تفكيري وعالمي الصغير البريء، وكأني أبعدُ فألاً غيرُ جميلٍ عن حياتي.
إن التخلص من هذا الشعور وطرده بكل قسوةٍ جلب لي ساعة القصاص ..الآن بعد أن أصبحت ربَ أسرة.. ولكن في ظروفٍ مختلفة وشخوصٍ أخرى..!
فها أنا أكتب رسالة إلى ابنتي المتقدّة بذكائها وهي في الوطن، وأنا في الغربة.. ليس لأنصحها كما فعل أديبنا، بل لأُجيب على أسئلتها التي وجتهها لي بنظراتها، كونها خجولة بطبعها.
كانت تحدّق بيّ وأنا أوصلها للمدرسة طوال الطريق، ونظراتها كل حينٍ تقول": هل فعلاً اعتقلوك بالأمس؟ هل عذبوك؟ ولماذا؟ هل تألمت؟ هل ستسرد لي يا أبتي حكايتك؟ ماذا فعلوا بك؟ هل تظن أني لا أعلم؟ هل انتهت الثورة؟ هل سنرسم، من جديدٍ، لوحات النصر والحرية؟ وأسئلة أخرى لم أحتمل ترجمتها بنظراتها .... المليئة بالأسئلة. نعم يا ابنتي.. لقد فعلوا كل ما سألتني عنه نظراتك.. نعم اعتقلوني وعذبّوني وشتموني في كل شيء.. في دينيّ ونسبيّ وأصليّ، وهددوني باغتصابك وأنت... تبلغين من العمر ثمانية أعوام فقط.. نعم يا ابنتي أشعر أنك تعلمين وتخجلين من سؤالي.. نعم يا ابنتي تألمتُ، ولكني أخرجتُ روحي من جسدي، وأرسلتها لتظللك أنت... وأخواتك حتى لا أشعر بالألم.. يا ابنتي تهمتي أني التحقت بركب الثورة..
نعم يا ابنتي سأسرد لك يوماً حكايتي كي أكون صديقك.. أسألك يا ابنتي.. هل تذكرين عندما قلت لك إحذري من ذكر شعارٍ من شعارات الثورة في المدرسة؟ هل تذكرين عندما قلت لك لا ترسمي رمز الثورة؟ هل تذكرين عندما قلت لك إنهم قد يعتقلوننا نحن الاثنين؟ إنيّ على يقينٌ أنك تتذكرين ما حدث حتى بعد مرور ما يقارب العام على ذلك..!
ولكن، أتعلمين شيئاً؟ ها أنا ذا أكتب لك رسالة لتقرئيها اليوم أو متى وصلتك.. لتُمعني جيداً في كلماتها.. اعصيني ولا تسمعي كلامي.. افعلي ما ربيّتك وعوّدتك عليه، وهو أن تفعلي ما ترينه صحيحاً.. ارفعي شعارات الثورة كما كنت ترددينها مع أخواتك، وارسمي رمزها كما فعلنا سوياً، استرجعي محتويات ذاكرتك في "ميدان الشهداء" واكتبي ما شاهدتُه عيناك، أعيدي رسم لوحاتك عن الثورة، لا تمحي شيئا من ذاكرتك.
نعم يا ابنتي.. كُوني على يقينٍ أننا سنرسم من جديدٍ سوياً كما كنا في الميدان.. ولكن كلا يا ابنتي لم تنته.. الثورة بعد.. وأنت.. وأقرانك من البنات والأولاد ستحملون عبء اكمالها، وحمل رايتها وسرد حكايتها جيلاً بعد جيل في زمن ليس فيه طغاة يريدون اعتقال وقتل كل شيء.. إلا الفكرة والكلمة.. فتذكريّ يا ابنتي كلمة الثورة.. ولوحتها.. وفكرتها.
* العذراء: ليس اسما حقيقيا لابنتي، انه المعنى اللغوي للاسم الذي تحمله.