» تقارير
سترة في قلب الراحل أنطوني شديد: كأنها بيروت أو بغداد أو حماة
2012-02-19 - 9:36 ص
مرآة البحرين (خاص): خسر العالم يوم الخميس الماضي أحد أعظم الصحفيين والكتاب برحيل مراسل صحيفة نيويورك تايمز الصحفي الكبير أنطوني شديد، الذي وافته المنية عن عمر ناهز 43 عاما.
وهز نبأ وفاة "شديد" الجسم الصحافي في العالم أجمع يوم أمس، وعبرت نيويورك تايمز عن صدمتها بهذا الرحيل المفاجئ، وقالت مديرة تحريرها "إن أنطوني مات كما عاش مصمماً على أن يكون شاهداً على التغييرات في الشرق الأوسط وعلى معاناة الشعوب العالقة بين قمع الحكومة وقوى المعارضة" (1)
وكان الراحل قد حصل على أعلى جائزة دولية في الصحافة وهي جائزة بوليترز، عن تغطيته لحرب العراق 2003 "لقدرته غير العادية في التقاط أصوات ومشاعر العراقيين حين غزيت بلادهم، رغم الأخطار المحدقة به شخصيا" كما تقول مؤسسة بوليترز.
وشديد أمريكي من أصل لبناني، لم يتعلم العربية إلا بعد دورات مكثفة في القاهرة، وعمل لدى أكبر الصحف والمؤسسات الإعلامية الأمريكية مثل أسوشيتد بريس، وواشنطن بوست، وكانت تحليلاته وآراؤه محل اهتمام وكالات الأنباء فيما يخص العالم العربي والشرق الأوسط باعتباره خبيرا بها.
ونعى الصحافي الكبير "نيك كريستوف" زميله شديد، وقال إنه المعيار الذهبي للصحافة بسبب مهاراته اللغوية، وعمله الجاد، وبسبب شفقته وصلابته، وقال صحافي آخر "من النادر أن يتوفى صحافي فيحدث فارقا في العالم كله. من دون شديد ستكون معرفتنا أقل، وسنخلص إلى دقة أقل، وحقيقة إنسانية أقل" في حين قال أحد الكتاب في مجلة فورين بوليسي "إذا كنت تهتم بالمنطقة، وإذا كنت تريد فهم ما يجري فعلا، فعليك أن تقرأ لأنطوني".
يتحدث بمرح.. |
تقول مراسلة "سي إن إن" أمبر لايون إن شديد كان يستمر في تسليط الضوء على ما يصمت عنه الآخرون مشيرة إلى قضية البحرين. كتب شديد العديد من التقارير النوعية خلال هذا العام عن ثورة 14 فبراير منها "البحرين تترقب بتوتر تقريرا عن ثورتها المنسية" (2) وكذلك " البحرين تغلي تحت غطاء من القمع" (3)
يقول شديد في بعض كتاباته إنه وجد الإنسانية وسط الأنقاض، والشفقة في لوحة من العنف. كتب شديد عن الحروب من خلال التركيز على الناس، عبر تفاصيل في الصميم، وكشف عن حياتهم في نوع من الأدب الرثائي، كما تصف فورين بوليسي.
يقول شديد في أحد كتبه "بعض العذاب يتعذر تغطيته بالكلام". زار أنطوني شديد جزيرة سترة البحرينية في أكتوبر 2011، ودخلت هذه الجزيرة قلبه ليقرنها ببغداد وبيروت. لنرى ماذا قال الراحل الكبير عن عذاب سترة وأنقاضها!
في سترة المليئة بالأنقاض: وجوه الشباب تنبئ بمستقبل قاتم للبحرين
أنطوني شديد/ سترة- البحرين
صحيفة نيويورك تايمز
تاريخ النشر: 28 أكتوبر 2011
ترجمة: مرآة البحرين
يدوّن بشغفٍ واهتمام.. |
في الليلة الأخيرة، بعد الاشتباكات التي تندلع بشكل شبه يومي، دخل واحد من هؤلاء الشبان بيت أحد أقاربه، وهو يحدق مترنحا كما لو كان خارجا من الزنزانة إلى الشمس. إنه الغاز المسيل للدموع.
يبتسم صديقه بتكلف بينما يظهر الندوب التي أحدثتها طلقات مطاطية أطلقت على ساقه وصدره، ويرفع شاب آخر كتفيه ليزيل قميصه حتى يكشف عن ظهره المتشوه بالرصاصات الكروية الصغيرة. "سترة هي الأزمة" يقول صديقه سند.
عندما اندلعت الاحتجاجات في البحرين في فبراير الماضي، اعتبرها الناشطون على أنها جزء من الثورات العربية (موجة من الاضطرابات التي قلبت الأنظمة القديمة بدءا من تونس إلى سوريا هذا العام). كان ذلك قبل تدخل المملكة العربية السعودية عسكريا، وقبل حملة شنت بعد ذلك على الأغلبية المسلمة الشيعية وكانت ساحقة بحيث يشبهونها بعمليات الفصل العنصري، وكذلك قبل أن تصبح العناصر المتشددة في العائلة الحاكمة المسلمة السنية هي المسيطرة.
مسؤولون حكوميون ألمحوا اليوم إلى أن الأزمة قد انتهت، حتى في الوقت الذي يعترفون فيه بالضرر الذي أحدثته في العلاقات بين السنة والشيعة (في هذا
البلد الذي استطاع الوصول إلى انفتاح نسبي)، وحتى على الرغم من وقوف كل الجهات المحايدة في العالم ضد سياساتهم الراسخة في اللامساواة.
"جرح مفتوح" يقول الشيخ عبد العزيز بن مبارك آل خليفة، وهو مستشار حكومي رفيع. لكنه يضيف "نحن في وضع أفضل بكثير مما كنا عليه قبل ثلاثة أشهر." لا أحد في سترة يبدو أنه يوافقه الرأي. كانت سترة قرية ريفية يروج فيها صيد السمك والزراعة ثم تحولت إلى لوحة ترسم ملامح المدينة التي تعاني من المحن والحرمان والألم. هذه المدينة الشيعية المكونة من 80000 نسمة، شديدة الاضطراب، ما جعل حتى زعماء المعارضة يبدون تعجبهم مما تقدمه من تحد. ما يقارب من ثلث المحتجين الذين قتلوا- 10 حتى الآن - هم من سترة التي تبعد نصف ساعة عن العاصمة المنامة، والتي تغلي في مرجل من التسييس والقمع والضنى.
وعلى الرغم من أن الاشتباكات التي وقعت ليست شيئا جديدا – إذ شهدت التسعينات نوبات مماثلة – إلا أن استمرارها واتساعها يشير إلى استعصاء الصراع في البحرين ويعكس مستوى الاضرابات بين الشرطة والشبان في غيرها من المدن الشيعية المهمشة. "سترة هي نسخة مصغرة للبحرين" يقول محمد، شاب آخر كان هنا، وكالآخرين الذين أجريت مقابلات معهم، لم يرد الكشف عن اسمه الكامل. يضيف صديقه سند "ما زلنا هنا..نحن نطالب..نحن موجودون".
في مشهد يحمل عبق حماة في سوريا، أو أجزاء من ميدان التحرير في ذروة الانتفاضة المصرية، يقيم الشباب المتاريس في الليل لمنع دخول الشرطة المستعدة، ثم يزيلون بعضها في الصباح. تجد هناك الأعمدة والطوب والكراسي وصناديق القمامة الكبيرة، التي تقلب وتنثر كل محتوياتها.
تقوم الشرطة بتسيير الدوريات الراجلة، نظرا لصعوبة التنقل في الشوارع. الشبان يقفون على النواصي، ويقومون بتمرير المعلومات المخابراتية الخاصة بهم عن طريق الهاتف المحمول، تويتر وسكايبي. حتى جدران مركز الشرطة المحلية الشبيهة بالحصن مليئة بالكتابة، على الرغم من أنهم اعتادوا مسح هذه الكتابات. الشعارات التي بقيت تحمل رسائل الشباب، وتسلط عليها أحيانا كشافات المصابيح الأمامية من بعض السيارات المارة في الشوارع المظلمة والفارغة.
"يسقط حمد" يقرأ أحدهم، في رسالة إلى الملك حمد بن عيسى آل خليفة. "لن نركع إلا لله" يؤكد شعار آخر. وبالقرب منه، يقول شعار خط باللون الأحمر "الحراك مستمر" "عندما يسقطون، ستسفك الدماء. أنا لا أريد ذلك أن يحدث. دماؤنا ليست رخيصة. لكنني لا أرى أن ذلك سيحدث بأي طريقة أخرى. إنهم لا يعرفون سوى الوحشية. هذه لغتهم" محمد، متحدثاً عن أسرة آل خليفة، التي حكمت البلاد لقرنين من الزمان.
تقر المعارضة الرئيسية بحقيقة حول سترة: السكان في أماكن مثل هذه البلدة هم أكثر تشددا منها. أكبر جماعات المعارضة الشيعية، الوفاق، تحرص على عدم الدعوة إلى إقامة جمهورية، وإنما نظام ملكي دستوري فقط. إنهم يتجنبون إهانة الملك، أو إغلاق القنوات الخلفية التي يأملون أن تفضي في النهاية إلى برلمان منتخب تكون له سلطة.
كثيرا ما يخلط التاريخ بالأزمة عند كل من الشيعة والسنة (الذين يخشون من سيطرة الشيعة). الشبان الشيعة يتحدثون عن غزو العائلة الخليفية للبحرين على أنها ذكرى حديثة. الشيء نفسه ينطبق على بعض السنة مع الثورة الإيرانية عام 1979، والتي يعتقدون أن نموذجها ما زال يحرك الناشطين الشيعة.
"أجدادنا عانوا من عائلة آل خليفة، آباؤنا عانوا منهم، والآن نحن نعاني منهم" يقول أحد الشباب هنا وقد طلب عدم الكشف عن هويته "لقد حكمونا عن طريق الدم، لا باتفاق، وهذه المعركة لا تزال مستمرة منذ 230 سنة وحتى الآن"
واحد من المتظاهرين الذين قتلوا في سترة كان علي جواد أحمد، 14 عاما، والذي توفي في 30 أغسطس. تقول عائلته إن قنبلة مسيلة للدموع ضربته في رأسه. لا أحد هنا يصدق تصريح الحكومة، بأنه كان ضحية عمل جنائي.
"لماذا كان عليهم قتل ابني؟" يسأل والده، ويضيف "كان مجرد صبي، لماذا لم يتم القبض عليه فقط؟" يهز رأسه ويقول "لا، كان عليهم أن يقتلوه".
في وزارة الداخلية، وهي المسؤولة عن الشرطة الذين يقومون بدوريات في أطراف سترة المترامية، يستطرد العميد طارق الحسن المتحدث باسم الوزارة، في التفكير بما ينتظره في المستقبل في هذه المدينة وغيرها "كيف سينتهي ذلك؟" يسأل العميد، ويجيب "لا أعرف". اعتبر العميد الحسن أن جزءا صغيرا فقط من سكان سترة شاركوا في الاحتجاجات، وأن أولئك الذين شاركوا اعتادوا على الفوضى. قام الحسن باستعراض الأسلحة - الصخور المقاليع وقنابل البنزين- ووصف الشباب بأنهم "ضائعين ومضللين".
"الشباب، كما تعلمون، مفعمون جدا بالحيوية والطاقة" يقول الحسن، ويضيف "إنهم مغامرون".
إلا أن السرد السياسي للاضطرابات لا مفر منه، كما هو الإحساس بأنها تتصاعد هنا بشكل أكثر تشددا وإصرارا في مواجهة وجود الشرطة الذي غالبا ما يعطي شعورا بأنه مثل الاحتلال. المواطنون يتداولون عبر هواتفهم المحمولة مقاطع فيديو يقولون أنها انتهاكات للشرطة، ويشيرون في الشوارع، إلى سيارات يقولون بأن الشرطة حطمت زجاجها الأمامي.
يقول محمد "الناس يزدادون غضبا، ولكي أكون صادقا فذلك أمر مخيف". إنه يتوقع المزيد من عدم الاستقرار في البلاد التي هي بمثابة قاعدة لأسطول البحرية الأمريكية الخامس. "الوضع يمكن أن ينفجر في أي وقت" يتحدث محمد، بينما تتأرجح المخلفات الباهتة للغاز المسيل للدموع في الهواء.
يضيف سند "إنهم يخلقون مجتمعا حيث لا يكون لديك شيء لتخسره فيه. الناس لا تزال لديها شيء لتخسره، على الأقل حتى الآن، ولكن إلى متى؟"
استمع والد المتظاهر المقتول (ذو الأربعة وأربعين عاما) إلى المحادثة، ووجهه يحمل ألم الوالد الفاقد لولده "سوف أقبل فقط بسقوط حمد"
سيظل أهل سترة والبحرينيون جميعا يذكرون الراحل الكبير بكل التبجيل والتقدير. رحم الله أنطوني شديد وخلد روحه العالية.