الهروب الكبير.. المغامرة التي هزّت صورة السجن الحديدي
2016-06-05 - 11:18 م
مرآة البحرين (خاص): يذكرنا هروب نحو 17 سجين سياسي من سجن الحوض الجاف الذي حدث قبل أيام في 3 يونيو، بالفيلم الأمريكي الهروب الكبير (The Great Escape)، وهو فيلم أنتج عام 1963، يقوم على قصة حقيقية وقعت خلال الحرب العالمية الثانية، إذ تبتكر مجموعة من الجنود من ضباط دول التحالف والمعتقلين كسجناء حرب في إحدى المعتقلات النازية المخصص للطيارين، خطة للهروب من هذا المعتقل الحصين وتهريب 250 معتقلا آخرين، كان هذا في ألمانيا النازية.
يمكننا أن نقول، إنه وفي البحرين عام 2016، تمكن فتية ترواحت أعمارهم بين 17-22 سنة من الهروب من أسوار سجن الحوض الجاف العتيد. نجاح عملية الهروب ل17 سجين سياسي، تعدّ الهزة الأكبر التي تعرض لها الجهاز الأمني في البحرين، ولوزير الداخلية المنتفخ راشد بن عبدالله الذي يمشي كالطاووس، حتى صار النواب لا يجروؤن على توجيه أكثر من سؤال واحد له خلال أكثر من عام كامل. لقد سقطت هيبة هذا الجهاز وصار أضحوكة، فكيف يمكن لهؤلاء الفتية أن يتمكنوا من الهرب من أسوار السجن الغليظة ويفلتوا من قبضة السجانين المحكمة ومن رقابة القوات المتأهبة الصارمة. كيف يمكن لكل هذا العدد أن يتسلل هارباً إلى خارج السجن لا بعد منتصف الليل، بل أثناء وقت صاخب طبيعي (الساعة الثامنة و45 دقيقة مساء)! لقد أسقط هؤلاء الفتية صورة الهيبة المزعومة لذلك الجهاز، فراح هذا الجهاز يسرب صورهم تعويضا عن هيبته الساقطة.
وإذا كانت الداخلية قد أعلنت فيما بعد، تمكنها من القبض على 11 منهم، إلا أن ذلك لم ينجح في أن يرد لها أي اعتبار. لم ينفع هذا الجهاز، توظيفه لأدواته الإعلامية الرسمية ووسائل التواصل المجتمعي المحسوبة عليه لتظهره بمظهر المنتصر النوعي: "إحباط تهريب 8 محكومين...."، و"القبض على 11 من موقوفاً هارباً في أقل من 24 ساعة"، لم يرجع ذلك شيئا من هيبته شيئاً. كما أن عرضه فيما بعد، للصور الاستعراضية البلهاء لمن أُلقى القبض عليهم، لم يغيّر من صورته المهزوزة شيئاً، بل في الحقيقة، لقد عبرت عن صبيانيته ومراهقته، خاصة مع نشر عدد من منتسبيه في وسائل التواصل المجتمعي، لصور (سيلفي) لأنفسهم مع المعتقلين المقيدة أيديهم من الخلف بأسلاك حادة تحزّ الأيدي حد القصّ، فيما لا يزال 6 آخرين لم يتمكن الجهاز الحديدي الخارق من إلقاء القبض عليهم، وذلك رغم استنفار نقاط تفتيشه على طوال شوارع البحرين ومداخل القرى ومخارجها وزوايا طرقاتها منذ ساعة هروبهم في تلك الليلة، وتعطيل حركة المرور في جميع شوارع البلاد حتى ساعات متأخرة من صباح اليوم التالي، ومداهمة عشرات البيوت في عدد من المناطق، وفيما لا تزال نقاط التفتيش منصوبة في العديد من شوارع البحرين.
عملية الهروب هذه تذكر الجميع أن ما يقارب 4 آلاف سجين سياسي من محكومين وموقوفين يعانون الأمرّين في سجون حكومة قبلية، معاناة طالما عبّروا عنها وأصدروا بشأنها بيانات وسربوا من خلف جدران زنازينهم قصصهم ومآسيهم، وأضربوا عن الطعام مراراً وتكراراً، وثاروا احتجاجاً ضدها بغير طريقة (كما حدث في ثورة سجناء سجن جو 10 مارس 2015)، لقد عبّر هؤلاء المساجين عن تضررهم النفسي والجسدي بكل الطرق المتاحة أمامهم وأوصلوها للجهات التي يفترض أن تكون مسؤولة عن الدفاع عن حقوقهم، لكن دون جدوى، لا شيء سوى المزيد من التضييق وتعمّد الإذلال.
ووسط الأحكام الخرافية التي تم تثبيتها على هؤلاء الفتية الصغار وغيرهم من المعتقلين (لا تقل عن 10-15 سنة وتزيد عن ذلك أضعاف المرات)، ومع استرسال النظام في مشروع تجريد المعارضين السياسيين والمعتقلين من جنسياتهم بالجملة إمعاناً في نفيهم المعنوي والمادي، ومع استمرار التضييق والإذلال والطمس، يأتي إما خيار الاستسلام للموت المفروض بالقوة، أو مواجهة هذا الخيار حتى الرمق الأخير، واستمرار المغامرة بحثاً عن خيط نجاة، فكان قرار الهروب، وكانت المغامرة الأخطر والأكبر التي نفذت في تاريخ السجون البحرينية.
في ألمانيا اليوم، وبعد أن تجاوزت مكارثية حزبها النازي العنصري، لا يعاقب القانون السجناء على محاولة الهروب من السجن، فذلك لا يعتبر جرماً ولا تخالف محاولة الهرب من السجن القانون، فمن وجهة نظر القانون الألماني، الرغبة في الحرية تعتبر غريزة إنسانية أساسية ولا ينبغي معاقبة من يحاولون لقيام بذلك.
قلنا إن المغامرة التي قام بها هؤلاء الفتية هزّت صورة ذلك البرج الحديدي (الحوض الجاف) وكسر هيبته المزعومة وهيبة الجهاز الأمني الذي يمثله. كيف؟
إنها مغامرة فيها جانب كبير من من البطولة بقدر ما فيها من الخطورة. ولوضع الشيء في مكانه، يجب أن يقال التالي، سجن الحوض الجاف ربما كان ثاني أكبر سجن في البحرين بعد سجن جوّ، وبه ما يزيد على 17 سجناً "عنبراً" بداخله.
تأسس سجن الحوض الجاف أثناء انتفاضة التسعينات، كان ما يشبه ثكنة للجنود في شمال البحرين، هذا السجن حوّلته الحكومة بالتعاون مع الخبرة البريطانية إلى سجن منيع، جداره من الخرسانة على ارتفاع طابقين تقريباً، وأرضيته وخصوصاً ساحاته الخارجية مصبوبة بخرسانة أسمنتية صلدة، وفوق الأسوار أسلاك شائكة، وكاميرات أمامه وخلفه لا يمكن إحصاؤها، كاميرات ظاهرة ومخفيّة، يقع هذا السجن بجوار البحر، وفي ظهر السجن البحر، وفي هذا البحر نقطة بحرية ثابتة على مدار الساعة لقوات خفر السواحل، وعلى يسار السجن ملاصق له تماماً، معسكر للقوات الخاصة في وزارة الداخلية مليء بالجنود على مدار الساعة أيضاً.
أمام السجن نقطتان ثابتان للمراقبة والتفتيش في الشارع الوحيد الذي يمر أمام السجن، نقطتان ذهاباً وإياباً، وإذا ما اتجهت يميناً فلا مناطق مأهولة، سوى بعض المصانع والشركات، ومحطات الطاقة، وصولاً لشركة أسري لإصلاح السفن أو ما يطلق عليه "الحوض الجاف" وهو المكان الذي أخذ السجن منه اسمه، وصولاً إلى البحر هناك نهاية شركة أسري، توجد نقطة عسكرية للقوات الخاصة وهي تشرف على الممر البحري بين المحرق وسترة، ومن هذا الممر تمر الغواصات والسفن العسكرية باتجاه ميناء سلمان الذي أصبح قاعدة للأميركيين وبداخلها أيضاً قاعدة بحرية بريطانية كانت هي إحدى الجوائز التي فازت بها بريطانيا تقديراً لدورها المستمر في المساهمة في استمرار الوضع البائس في البحرين.
إذا ما اتجهت يساراً ومررت بنقطة التفتيش، فأمامك طريق طويل يمر بجسر الحد الجديد نحو ميناء سلمان والاسم الرسمي لهذا الجسر هو جسر خليفة بن سلمان، إذا تجنبت الجسر فليس أمامك إلا الانعطاف يميناً، وعلى اليمين مباشرة طريق يؤدي إلى منطقة الحد التي يقطنها أغلب الضباط والجلادين.
جسر الحد أو جسر خليفة بن سلمان هو أحد أهم المناطق المراقبة في البحرين، فمن يمر فوقه ذهاباً وإياباً، سيمر حتماً بجانب القاعدة الأميركية الموجودة في الجفير، والتي يمتد منها جسر فوق جسر الحد، ووظيفة هذا الجسر الممتد من القاعدة هو الوصول إلى ميناء سلمان، وفوق هذا الجسر تمر آليات وشخصيات وأسلحة وما لا يعلمه أحد، لذا فإن هذا المكان مرصود أمنياً بدرجة فائقة وتتواجد في المكان على مدار الساعة دوريات أمنية، ودوريات مرور وظيفتها عدم السماح بوقوف أي سيارة على الجانبين مهما كانت الظروف.
تحت جسر الحد تيارات مائية قاتلة، لا يمكن لأحد السباحة فيها، ولو افترضنا إن أي سجين استطاع السباحة ووصل تحت الجسر فإن هذه التيارات لن تجعله ينجو، وموت أكثر من خمسين أجنبياً منهم بريطانيون في القضية التي عرفت بقضية بانوش الدانة في يناير 2009 ليست ببعيد عن ذاكرة البحرينيين.
هذه هي الصورة الحقيقة لمن يريد أن يعرف حجم مغامرة 17 سجيناً ضاقت بهم السبل، واستطاعوا بشجاعة نادرة كسر كل هذه الحواجز، ووصلوا ربما لما يمكن أن نسميه الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النجاة وهو ركوب قارب عبر البحر، خلال أقل من 24 ساعة استطاعت الأجهزة الأمنية المدعومة بريطانياً العثور على عدد من هؤلاء السجناء الذين كانوا يتلمسون طريق النجاة من هذا الجحيم.. الأشجع هم من كانوا أحراراً ولم يفقدوا الأمل ولم يكفروا به، الأشجع هم الأحرار الذي ركبوا الأهوال ليساعدوا هؤلاء السجناء على الوصول إلى الحرية...
تحية في الزمن الصعب للقابضين على الأمل، المؤمنين بأن ثمة شمس ستشرق غداً..