» رأي
عبد الغني خنجر: ثورة 14 فبراير.. صرخة دوّت في السّجون
مقالات أخرى - 2012-02-14 - 10:15 ص
مرآة البحرين (خاص): في أغسطس 2010م بدأت رحلة الوجع. رافقتنا القيود في الطوامير المظلمة تحت الأرض. تسمعُ الصّراخ، والأنّات، ولكنك لا ترى بشراً، ولا ظلّ بشر. هكذا كنّا بعد تنفيذ جهاز الأمن الوطني لسيناريو القمعة الأمنيّة آنذاك. كان الجهاز يشعر بخيلاء، وأنّه أنجز مهمّته بنجاح باهر. كان يُظهر انتصاره كلّ حين.
لكن، ماذا حدث بعد ذلك؟ وكيف تنفّست القلوبُ المقهورة عطرَ الفرج؟
قبل ذلك. كانت سجوننا نسخة من سجون غوانتينامو ومعتقل أبو غريب. داومَ الجلاّدون على الإمعان في إذلال نفوسنا، والتباهي كلّ صباح ومساء بأنّه حركة الشّارع تمّ قهرها نهائياً. كانوا يدخلون علينا الزنازن، ليُكرّروا: "لقد أخرسنا الشّارع، ولم يعد لكم أيّ ذكر. سحقنا كلّ منْ يعبّر عن التعاطف معكم. أنتم منسيّون، وفي قبضتنا". وجاء نسيمُ فبراير. تحوّلنا من مقهورين إلى قاهرين. من شبه أمواتٍ، إلى صرخاتٍ حيّة هزّت جدران السّجون وأرعبت السّجانين.
قبيل فبراير، كانت المعلومات شحيحة حول ما يجري في العالم الخارجي. كنّا في وضع يُشبه السّجن الإنفرادي، حيث يصعب تداول المعلومات والأخبار. ثورة 25 يناير في مصر أدخلت فينا البشرى. سقوط الطاغية مبارك هزّ ضمائرنا ووجداننا.
تسرّب إلينا "يوم الغضب البحريني". التعتيم شديد، وقبضات جهاز الأمن تسدّ كلّ المنافذ. طرحنا على أنفسنا تساؤلات عديدة: يا ترى، كيف سيكون؟ هل سينجح؟ ومنْ سيُنجحه؟ كيف سينجح والقمع الأمني، منذ أغسطس، خلّف أكثر من 200 معتقل؟ كيف، وفرقُ الموت والميليشيا أدخلت الرّعب في نفوس النّاس؟
لم يدر في خلدنا أن ساعة الصفر، فعلاً، قادمة. يُتمتم بعضنا البعض بأخبار يوم الغضب. حاولنا بكلّ الطرق نقل الخبر بين الزنازين التي نعلم أن فيها "مجموعة 25"، ولكن لم نكن نستطيع الحديث أو رؤية بعضنا البعض إلا نادرا. كنّا نستفيد من أية فرصة لرفع المعنويات، وتأكيد الصمود في وجه التنكيل والإذلال المستمر بحقنا منذ شهور.
قبيل ساعة الصفر، وتحديداً قبل 14 من فبراير بأسبوعين، مُنعت فجأةً عنّا الزيارات. لاحظنا التشديد في التعامل. جلاوزة السجن يتم تغيرهم بشكل يومي. شعرنا بأن ثمة شيئاً يحدث في الخارج، وأن الإعلان عن يوم الغضب البحريني قد أصاب النظام بالخوف والرعب. ولكننا لم نكن نعرف حجم التفاعل مع تلك الدعوة، ولم نتوقع - في الحقيقة - أن يحدث ما حدث. انتظرنا. تلهّفنا لمعرفة أيّ خبر، أو حتى نصف خبر حول الوضع خارج السجن، ولكن دون فائدة. الجلاوزة لا يتحدثون معنا، وإنْ تحدثوا فإن ثمة أوامر صارمة بعدم نقل أي شي حول الوضع.
الانتظار أصابنا بالإعياء، وتوجّسنا خيفة. وفي يوم 14 فبراير، وتحديدا بعد منتصف الليل، نسمعُ خلف عنبر السجن رقم 5 في الحوض الجاف عناصرَ جهاز الأمن وهم للتو قد عادوا من الخارج، وبأعداد كبيرة جدا، مما يوحي بوقوع خطب وأنّ امراً يحصل خارج الزنازن.
مرّ 14 فبراير. ومرّ15 فبراير، ومرّ أكثر من أسبوع على يوم الغضب، ولم نكن نعلم أي شي. بسبب ذلك، قررنا القيام بخطوة تعدّ جريئة جدا بالنظر إلى طبيعة اعتقالنا وظروفنا المشدّدة. قرّرنا الإضراب عن الطعام، وأن نطلب زيارة الأهالى لمعرفة ما يدور في الخارج، كما رفعنا الصّوت مطالبين بوقف مسلسل الإذلال والضرب والحرمان من الحاجات الأساسية في السجن. استمرّ الإضراب يومين، وتكلّل بالنجاح، حيث حضر الجلاّدون وأخبرونا بأن الزيارات ستبدأ غدا، وطلبوا فكّ الإضراب عن الطعام، مع وعدهم بأنّ بتحسين المعاملة.
في 20 فبراير كانت الزّيارة الأولى. كنتُ في زنزانة رقم 1. صادف أن تكون أول زيارة في الصّباح لأحد المسجونين معي في نفس الزنزانة، وهو الأستاذ عبد الأمير العرادي. كأنّ زنزانتنا كانت موعودة بأن تكون أولى الزنازن التي يدوّي في أرجائها الخبر العظيم، فتبكي لبكائنا، وتنتفض معنا.
كنّا ننتظر عودة العرادي من الزّيارة. الكلّ في حال انتظار. لقد كانت طريقتهم أن يأخذونا للزيارة بشكل لا يسمح لنا بأن نلتقي مع بعضنا البعض. فبعد خروج ورجوع الأول يذهب خلفه الآخر وهكذا. كان الترقّب يسيطر علينا جميعاً. هيّأتُ نفسي للزيّارة، حيث أخبروني بأنني التالي. وبينما كنتُ كذلك، أطلّ العرادي عليّ وعلامات الحزن الشديد باديةً على وجهه. دخل الزنزانة، وكنتُ جالساً. فصرخ في وجهي. أتذكرُ تلك الصرخة المشحونة بالعزة، والمفعمة بالحزن الشديد. قال لي:" قمْ، وارفعْ رأسك، فلقد قدّم الشعبُ كوكبةً من الشهداء. أكثر من 7 شهداء سقطوا مضرجين بالدم، والشعب ثار.. ثار.. ولن يهدأ".
وقفتُ! وفزع جميع السجناء (23 سجينا) في ذلك السجن. بدأ البكاء والعويل. وقف الجلادون مذهولين، لا يعلمون ماذا يفعلون! وبدأنا في الصراخ، والبكاء، وركل الأبواب الحديدية بقوة، وعلت هتافات: "الموت لآل خليفة" و"هيهات منا الذلة"!
لم يستطع الجلادون القيام بأي شيء. لم يكن في حسابهم حتى محاولة السيطرة علينا. حاولوا التهديد، ولكن لم يجد نفعا، فقد كان حرماننا من الأخبار، ووصولها فجأةً لنا - خصوصا بعد أن تفاقم الوضع، وعدد الشهداء، وما حدث من تفاصيل أخرى - بمثابة الصاعق الذي فجّر في داخل قلوبنا المقهورة رغبةً في التمرّد والإنعتاق. لم تكن جدران السجن لتمنعنا من العروج نحو دوار اللؤلؤة، ولم يكن يجدي التخويف بالصعق بالكهرباء أو التعذيب والضرب. هكذا عشنا يومين متتاليين قبل أن يرغموا صاغرين على إطلاق سراحنا في أول ساعات 23 فبراير.
في مساء 22 فبراير، أحسسنا أن حركة غير طبيعية تجري في السجن. لم نتوقع أن يُطلق سراحنا، ولم نكن نكترث أصلاً لإطلاق سرحنا بعد ورود أخبار الثورة الشعبية وشعارات إسقاط النظام. فجأة، بعد منتصف الليل، يأتي قرار إطلاق سراحنا. وقد تعمّدوا تأخيرنا حتى بعد منتصف الليل.
خرجتُ أنا متأخراً لأنني قرّرتُ البقاء مع الدكتور عبد الجليل السنكيس لحمل أغراضه. خرجت بعد الساعة الثالثة فجرا. وكنّا قد قرّرنا سلفاً في السجن أن نطوف على دوار اللؤلؤة قبل الذهاب لمنازلنا. وبالفعل، خرجتُ لأجد ولدي محمد موشّحا بعلم البحرين. أحسستُ وكأنما عصر حكم الاستبداد انتهى، أو أنه لا يمكن أن يبقى بعد اليوم، وكأنما مستقبل الحرية المشرق قد أقبل مبكّرا ودون إستئذان. توجهتُ فورا إلى الدّوار. لم أكن اصدق أنني في حضرة دوار اللؤلؤة! كان شعوراً امتزجت فيه دموع الفرح والحزن معا. حضرت أياماً متتالية في دوار اللؤلؤة فقط لأرمق الناس، وأشعر بالعز، وأن هذا الشعب نهض، ولن يرجع للوراء أبدا. وكثيراً ما تسامرت مع زملائي في رحلة السجون - منذ أغسطس إلى فبراير - هل نحن في البحرين؟ وهل هي فعلا فقط خطوات نحن الحرية والكرامة؟!
* عبد الغني خنجر، ناشط حقوقي، محكوم غيابيا (15 عاما) في قضية "التحالف من أجل الجمهورية"