14 فبراير: أمل خلف… والصورة المقلقة لدوار اللؤلؤة!
2016-02-14 - 6:54 م
في هذه الصور الرّقمية، نلامس حياة وموت دوار اللؤلؤة: مشهد بعثه ومشهد تناثره وتلاشيه مجددا. دوار اللؤلؤة تحول إلى نصب تذكاري للانتفاضة ضد نفس الدولة التي أنشأته... الروح تنفخ في صورة دوار اللؤلؤة... دوار اللؤلؤة يقوم في البحرين وينهض من تحت الأنقاض ...وفي قيامته يواصل دوار اللؤلؤة بعناد مقاومة الدّولة.
أمل خلف
مرآة البحرين (خاص): إلى أي درجة يمكن أن تكون الصورة مقلقة؟ وكيف تستطيع أن تخلق ذاكرة مضادة، يمكنها أن تبث الفوضى السياسية، والاجتماعية، وأن تظل تبعث الحياة والروح في المقاومة، والعمل الاحتجاجي، والسخط، والتحدّي؟ كيف تعمل الصورة في مخيّلة الجماعة والفرد؟ كيف يمكن لهذه الصورة التي تعيش في الذاكرة، أن تجعل الفاصل بين الواقع والخيال، أمرا من الصعب تحديده بعد كل هذه السنوات؟
قبل 3 أعوام، وفي مثل هذا الشهر تحديدا، كتبت فنّانة بحرينية عاشت طفولتها في المنامة ورقة تحت عنوان: القيامات المتعدّدة لدوّار اللؤلؤة The Many Afterlives of Lulu، لتطرق مجالا بحثيا نادرا، هو البحث في الثورات من مفهوم الصورة والذاكرة الجماعية المضادة: كيف بقي دوّار اللؤلؤة حيّا في الذاكرة البحرينية بعد فنائه؟
تربيع الدائرة: بين دوّار اللؤلؤة ودوّار السمكة
من مفهوم "تربيع الدائرة"، تنطلق أمل خلف التي عاشت طفولتها في أحياء المنامة، في مقالتها من خلفية هندسية، تحاول أن تحاكي فعل الثورة في الخليج عبر صنع المستحيل.
وفضلا عن قصّ تاريخ الدوّار، منذ إنشائه، تذهب خلف بعيدا، في تحليلها لسلوك النظام تجاه الدوّار، عبر مقاربة تسرد فيها كيف عمل النظام جاهدا على محو أي أثر يدل على الطابع النضالي والسياسي لمكان آخر كان قد شهد مقر أول مجلس بلدي منتخب في الخليج، والكثير من الاحتجاجات السياسية منذ العشرينات من القرن الماضي، أي منذ أول انتفاضة في تاريخ البحرين الحديث والمعاصر، وهو أحد أحياء سوق المنامة القديم، والمفارقة أن المعلم الوحيد الباقي في هذا المكان هو دوّار، يعرف بدوّار السمكة!
تصف أمل هدم دوّار اللؤلؤة بأنّه خطوة رجعيّة بشكل مذهل، وتصنّفه ضمن أعمال إدانة الذكرى، المعروفة في العهد الروماني "هدم دوار اللؤلؤة من قبل السلطات تبعته عملية محو صورته من الرأي العام.. بهدم دوار اللؤلؤة كان واضحا أن هذا النصب أصبح منذ ذلك اليوم عدوا للدولة وكان ذلك عقابه... أزيل دوار اللؤلؤة من رواية الدولة من حكومة تأمل خلق لوح نظيف تعيد فيه كتابة الذكريات المسموح بها فقط بعد الانتفاضة".
العبور والعودة: الصورة التي لا يمكن تدميرها
استنساخات اللؤلؤة التي ولدت من صورة يحاول النظام أن يهدمها، قادرة، في رؤية أمل، على بث الاضطراب الاجتماعي والسياسي وخلق روايات جديدة وذاكرات مضادة "مع استمرار الانتفاضة البحرينية حظي دوّار اللّؤلؤة بمنزلة أسطورية... اليوم، دوار اللؤلؤة هو رمز قوي بالنّسبة لآلاف الأشخاص الذين يعيدون صياغة مُثُلِهم العليا في صورة النّصب: مساحة عامة، أو ميدان، وهو ما لم يعد موجودًا كـ "شيء" مادي، لكنّه، يعيش كصورة في الذاكرة".
"على الرّغم من هذا القمع القاسي، عاد الكثيرون في تحد إلى دوار اللّؤلؤة، الذي أصبح الآن موقعًا للمأساة... العبور والعودة هما بمثابة محاولة الحصول على صور مؤثّرة، تصف واقعًا معقدًا ومظلمًا".
تصل أمل إلى طرح جديد من خلال دراستها صورة دوار اللؤلؤة، بعمق ثقافي، سياسي وسوسيولوجي، ومن خلال رؤيتها الغرافيكية للثورة، من بعد الصورة، الفيديو، والذاكرة "إعادات التّخصيص الثابتة هذه تدفعنا إلى إعادة النظر في علاقتنا بالصّورة، ووجودها في العالم الافتراضي، حيث الصور لا يمكن تدميرها... هذه الأفعال قد تساهم في الرّبط بين مثل هذه الأشياء كالذّاكرة والهندسة المعمارية، أو معنى المكان وتجربة النّضال في معاملة بين كلا جانبي الشّاشة".
دوار اللؤلؤة: مقاومة الموت
"يصف فوكو كيف تشق الذّاكرة المضادّة ما هو صلب متراص، وتمزق الروايات المفروضة من قبل الأقوى... في هذه الصور الرّقمية، نلامس حياة وموت دوار اللؤلؤة: مشهد بعثه ومشهد تناثره وتلاشيه مجددا. دوار اللؤلؤة ناشط مخلد أو شهيد يغرس نفسه في ذاكرة الشعب البحريني والوعي الجماعي".
بموته، تقول أمل "اتخذ دوار اللّؤلؤة حياة من نفسه، متحوّلا إلى رمز لحركة الاحتجاج... دوار اللؤلؤة يقوم في البحرين وينهض من تحت الأنقاض ...في قيامته يواصل دوار اللؤلؤة بعناد مقاومة الدّولة... دوار اللؤلؤة تحول إلى نصب تذكاري للانتفاضة ضد نفس الدولة التي أنشأته... الروح تنفخ في صورة دوار اللؤلؤة"!
المقالة التي تصنّف على أنّها ورقة بحثية، تدرس "الحياة الخالدة لدوار اللؤلؤة"، هي تقول إن قيامته تقوم أكثر من مرّة، وإنّه يبعث في الكثير من الأشياء.
اللؤلؤة بعد 5 سنوات: اعتراف ببقاء الثورة
الوقت أيضا لم يتمكّن من قتل اللؤلؤة. مقال أمل خلف كان بعد سنتين فقط من الثورة. اليوم وبعد 5 سنوات، لا زال دوار اللؤلؤة ينبض بالحياة.
لدوار اللؤلؤة أكثر من قيامة، ونحن نشهد قيامته في كل 14 فبراير. يريد البحرينيون للنصب أن يقوم، وأن يبقى مكانا يرمز إلى حقهم في هذا البلد، ويمثل مظالمهم ومطالبهم، بأن يبقيها واقعية في حيّز مكاني على الأرض، تملأه الذكرى والتاريخ. يريدونه أن يكون المؤشّر المكاني على الانتصار، تماما مثل خط النهاية في أي سباق... يريد البحرينيون أن يحرّروا دوّار اللؤلؤة، فتحريره فقط هو ما سيعني الانتصار على الديكتاتور، ونهاية زمن الاستبداد.
قبل أيام فقط، ظهر اسم الدوّار مجدّدا في وسائل الإعلام المحلّية، حين قرّرت السلطات فتح أحد شوارعه، في حين لا زالت تحافظ على المنطقة كلّها مغلقة، ومحاصرة بسياج عسكري، يمنع فيه حتى التصوير.
السياج العسكري حول دوّار اللؤلؤة، هو اعتراف علني من الدولة بأن الثورة لم تنته.
وفي الذاكرة الجماعية، كما تصف أمل خلف، لا زال الدوار حيّا، حتى بعد 3 سنوات من مقالتها. فحتى أكتوبر/تشرين الأول 2015، حاول متظاهرون الوصول إلى الدوّار، لتندلع اشتباكات بينهم وبين قوّات النظام. ذات التحدّي حدث أيضا في أغسطس/آب، على هامش إحياء ذكرى عيد الاستقلال. في ظل انخفاض حدة الاحتجاجات ورتمها بشدّة، بعد تشديد القبضة الأمنية واعتقال زعيم المعارضة، كان مثل هذا الحدث في 2015 رهيبا. حدث دلالته كافية لأن تؤكّد ما قالته أمل خلف: لا يبدو أن هذا الدوّار سيموت أبدا.
كان من اللافت أيضا أن يقوم زعيم المعارضة البحرينية المعتقل، بإطلاق دعوة شجاعة من داخل المحكمة إلى فتح دوّار اللؤلؤة، والسماح للشعب بالتظاهر والتجمّع فيه.
وضمن الذاكرة الجماعية أيضا، في فبراير/شباط الجاري، أطلقت منظّمات وناشطون بحرينيون في واشنطن، فعالية تحت عنوان "إعادة بناء دوار اللؤلؤة"، وهي حملة للقيام فعليا بإعادة بناء الدوار، في موقع يقابل مبنى السفارة البحرينية في العاصمة الأمريكية، وخلال الفعالية وضعوا بالونا ضخم يجسد دوار اللؤلؤة أمام مبنى السفارة. تخيّلوا فقط أن يحدث هذا فعلا!
هي إحدى التبدّلات والتحوّلات التي تشكّلها الصورة، كما تقول أمل خلف.
إزالة تاريخ
دوّار اللؤلؤة وهدمه ظل موضوعا تتداوله حتّى الأمم المتّحدة، ربّما بذات السياق الذي طرحته الكاتبة أمل خلف.
في خطاب موجّه إلى الحكومة البحرينية أرسل في العام 2014، طالب المقررون الخاصون بالأمم المتحدة، بإزالة الطابع العسكري عن دوار اللؤلؤة، وفتحه والسماح للعموم بالوصول إلى موقع النصب المدمر، معبرين عن قلقهم من أن يكون هدم نصب اللؤلؤة "سياسية لمحو رمز الحركة الداعمة للديمقراطية من الساحة العامة ومن الذاكرة العامّة، وبالتالي، منع الحديث عن الرواية المغايرة للخطاب الرسمي في ما يخص أحداث فبراير/شباط ومارس/آذار 2011"، المقرّرون قالوا إن دوار اللؤلؤة بات يعتبر رمزا للمطالبة بالحرية والديمقراطية، لدى البحرينيين.
وفي مارس/آذار 2015، نقل عن المقرر الأممي الخاص المعني بالثقافة قوله إن الحكومة البحرينية أزالت تاريخا وذكرى بهدمها دوار اللؤلؤة.
وفي ذات الفترة، علّقت لوحة تحمل رسم دوّار اللؤلؤة، خارج إحدى قاعات مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، في جنيف، ما اعتبر صدى لرسالة المجلس في وجوب عدم إسكات التعبير عن الروايات حول دوار اللؤلؤة.
حرب الأفكار
وكما قالت وتنبّأت أمل خلف، بقي الدوّار حيّا حتى من جهة الدولة ومؤيديها، فقد أوردت وكالة الأنباء الرسمية في أبريل/نيسان 2015 أن قائد كتيبة الدبابات الملكية وهو برتبة عقيد أهدى القائد العام لقوة دفاع البحرين "المشير" خليفة بن أحمد آل خليف كتاباً بعنوان "الفاروق 2011" وهو اسم العملية التي سحقت فيها قوّات النظام المتظاهرين في دوّار اللؤلؤة، ثم قامت بهدمه، والانتشار في محيطه عسكريا في مارس/آذار 2011.
الكتاب الذي مجّد هدم دوار اللؤلؤة وقتل المحتجين، أعاد إلى الذاكرة كل تلك الأحداث، في حين وصف المشير منهجيته بالدقيقة. ويبدو أن الكتاب احتوى على صور توثيقية من العملية نفسها.
وعلى طريقة "حرب الأفكار"، التي ناقشتها أمل، في استعراضها صور الدوار المتلاعب بها التي لا نهاية لها، والتي تقدّم دائما كدليل أو إثبات، حدث أيضا في العام الماضي تحريف مذهل في رسم كاريكاتوري وضعه فنان بحريني ليرمز إلى الثورة في البحرين.
يظهر الرسم أماً وابنها وابنتها متحلقين حول مائدة إفطار، واستعيض عن وجود الأب والابن الأكبر بصورتيهما، إذ أن الأول معتقل في سجون النظام والثاني شهيد، في تعبير عن حال كثير من الأسر البحرينية في شهر رمضان. من خلال النافذة، يظهر في الرسم من الخلف "دوار اللؤلؤة". أعيد إنتاج الرسم للتعبير عن معاناة شعوب أخرى، مثل الفلسطينيين والسوريين والمصريين، وفي حين حافظ هؤلاء على حقوق الرسّام، فأبقوا توقيعه، حذفوا من الرسم صورة الدوّار!
دوّار اللؤلؤة أيقونة جذبت الكتّاب والصحافيين
كان الدوار غلافا لكتب ومجلات عدّة خلال هذه السنوات، بعضها كان لا يتحدّث عن البحرين فقط، بل عن منطقة الخليج. دوار اللؤلؤة بات رمزا للمعارضة السياسية في كل الخليج. لقد تحوّل إلى أيقونة كانت طريقة توظيفها مثيرة بشكل نادر جدا بين الثورات، ربما حتى في كل التاريخ الحديث والمعاصر.
وعليه فرض الدوار نفسه على الصحافة والباحثين. كثيرون اندفعوا للكتابة عنه، منذ العام 2011، من بينهم الكاتب البريطاني المعروف باتريك كوكبرن في صحيفة الإندبندنت، والكاتب فيليب كينيكوت، في صحيفة الواشنطن بوست.
أمل خلف
تحمل أمل خلف الماجستير في نظريات الفن المعاصر، من قسم الثقافات البصرية، بكلية غولد سميث، في جامعة لندن، إحدى أعرق الجامعات البريطانية. ينتشر الحديث عنها في العديد من عواصم الثقافة والفن عبر العالم، على أنّها فنّانة، باحثة، وكاتبة، رغم أنّ أحدا ربما لم يسمع باسمها في البحرين.
استضيفت أمل للحديث عن البحرين، وعن ورقتها هذه تحديدا، في جامعة بنسلفانيا الأمريكية، كما أنّها تحدّثت في عدد من المؤتمرات والمنتديات، إحداها كان في جامعة أكسفورد.
خلال 3 سنوات من نشرها، ظلت هذه الورقة البحثية حيّة، تماما مثل دوّار اللؤلؤة، التي كانت تتحدّث عن حياته الخالدة. نشرتها مؤسسة إبراز، ضمن كتاب صدر في العام 2014، ثم نشرت في الجورنال البحثي "ميدل إيست كريتيك"، بعنوان مختلف هو "تربيع الدائرة: دوار اللؤلؤة في البحرين"، ونشرت حديثا في كتاب "انتفاضة البحرين... المقاومة والقمع في الخليج"، الذي حرّره عضو منظّمة بحرين ووتش، مارك أوين جونز، وزميلته آلاء الشهابي.
وفضلا عمّا أثارته المقالة في الأوساط الفنّية والأكاديمية، اهتمّ المختصون في علوم السياسة والاجتماع بها، واقتبست منها العديد من الدراسات والكتب، أهمّها للباحثة الفرنسية المعروفة لورنس لوير.
تعالج بحوث أمل خلف مواضيع العمران، المجتمع، النشاط الإعلامي، والفن. اهتمامها البحثي والفنّي يشمل الغرافيتي، الرسم، الصورة، المنحوتات، والتراث الثقافي، وربط الفن بالمجتمع، وهي مسئولة عن كثير من المشاريع والمبادرات الفنّية والإعلامية التي يندرج بعضها تحت إطار المعارض.
عملت أمل في جامعة لندن كباحثة مشاركة لمدة 3 أعوام، وهي تعمل حاليا قيّمة معارض ومشاريع فنّية، في أحد أكبر المعارض بالعاصمة البريطانية لندن، الذي يستقبل أكثر من مليون زائر سنويا، وقد صنّفت من قبل شبكة (لنكد إن) من بين أهم 15 شخصا في وظيفتها.
وبمناسبة الذكرى الخامسة لثورة 14 فبراير، تحتفي مرآة البحرين بالكاتبة والفنّانة البحرينية المبدعة أمل خلف، وتقدّم ورقتها مترجمة لأول مرة.
القيامات المتعددة: قصة دوار اللؤلؤة في البحرين