القيامات المتعدّدة: قصة دوار اللّؤلؤة في البحرين
أمل خلف - 2016-02-13 - 4:41 م
أمل خلف*
ترجمة: مرآة البحرين
تربيع الدّائرة هو مشكلة من مخلفات الإغريق القُدامى. وهي تنطوي على أخذ الخط المنحني في الدّائرة ومحاولة رسم مربع كامل انطلاقًا منه، وهي مهمة اقتنع الرّياضيون على مدى قرون أنهّم يستطيعون حلّها. في القرن التاسع عشر، عندما برهن على أن هذه المسألة ليس لها حل، جاءت عبارة "تربيع الدّائرة" لتعني محاولة المستحيل. لكن في العام 2011، خلال أيام من الاحتجاجات الأكثر استمرارًا والأوسع انتشارًا على المستوى الإعلامي، في التّاريخ الحديث للبحرين، تمّت تسمية دائرة بمربع. دوار اللّؤلؤة، الشهير في الإعلام الدّولي على أنّه موقع لرد الخليج على الربيع العربي، أًصبح ميدان اللؤلؤ أو Pearl Square.
بعد شهر من الاحتجاجات، تم هدم الدّوار، وسوّي بالأرض. بموته، اتخذ دوار اللّؤلؤة حياة من نفسه، متحوّلا إلى رمز لحركة الاحتجاج، ونجمًا لفيديوهات التّكريم، وألعاب الفيديو، وشعارا لقنوات الإنترنت التلفزيونية، وموضوعًا لحروب المطالب المتنازع عليها، والتفنيدات، والتعليقات. مظاهر الدّوار هذه - متعددة الوجوه والمتغيرة والتي تكون غالبًا متناقضة- تنتج تأثيرًا خطابيًا مؤرِقًا، محرّضة على نقاشات تغذيها صور العنف الماضي والمتواصل في تاريخ البحرين. في قيامته (ما بعد حياته)، يواصل دوار اللؤلؤة بعناد مقاومة الدّولة، على الرّغم من محاولات الحكومة إظهار ذكرى النّصب في إطار يخدم مصالحها الخاصة، والذّهاب إلى حد تمزيق صورة النّصب وإعادة تسمية الأرض التي كان قائمًا عليها يومًا ما. اليوم، دوار اللؤلؤة هو رمز قوي بالنّسبة لآلاف الأشخاص الذين يعيدون صياغة مُثُلِهم العليا في صورة النّصب: مساحة عامة، أو ميدان، وهو ما لم يعد موجودًا كـ "شيء" مادي، لكنّه، يعيش كصورة في الذاكرة.
ولادة دوار اللؤلؤة
كان دوار اللّؤلؤة دوارًا أساسيًا في العاصمة البحرينية، المنامة. وفي وسطه، يبرز نصب يبلغ طوله 300 قدمًا، ذو لون أبيض كالحليب، تم بناؤه في العام 1982 للاحتفال بالقمة الثّالثة لمجلس التّعاون الخليجي، وهو اجتماع للدّول الخليجية. ومثلت كل من الأضلاع المائلة الست للنّصب الدّول الأعضاء في مجلس التّعاون الخليجي: البحرين والكويت وعمان وقطر والسّعودية والإمارات العربية المتحدة. تم وضع لؤلؤة مصنوعة من الإسمنت على هذه الأضلاع في إشارة إلى اقتصاد المنطقة القائم سابقًا على الغوص من أجل اللآلئ، الذي جذب إعجاب جاك كارتييه إلى أرض البحرين. لكن مع تراجع صناعة ا`;vللّؤلؤ، وتواصل حركة النّاقلات في حفر وجرف أعماق البحار في المنطقة، وتدمير اللّآلئ في هذه العملية؛ تطلعت دول مجلس التّعاون الخليجي إلى حقبة جديدة من التّطور الاقتصادي.
قمة العام 1982 أطلقت أيضًا مؤسسة الخليج للاستثمار، وهو صندوق تبلغ قيمة تمويله 2.1 مليار دولار، وشراكة عسكرية بين دول مجلس التّعاون الخليجي: إنشاء قوات درع الجزيرة. هذه المعاهدة صاغت ما يشكل الآن ركيزة العقيدة العسكرية لدول مجلس التّعاون الخليجي: أن أمن كل الدّول الأعضاء في المجلس يعتمد على مفهوم مفاده أن دول مجلس التّعاون الخليجي تعمل سويًا كـ "كلّ لا يتجزأ".
وللاحتفال بنهاية القمة المهمة، حمل موكب من السّيارات المسؤولين لإزاحة السّتار عن لوحة تذكارية تشير إلى بناء جسر من 25 كم يصل البحرين بالبر الرّئيسي لشبه الجزيرة العربية. وقد تقدم كل من الملك السّعودي فهد بن عبد العزيز وأمير البحرين الشّيخ عيسى بن سلمان آل خليفة لإزاحة الأغطية السّوداء. لم تعد البحرين، على المستوى النّظري على الأقل، جزيرة. بعد إنشائه، أصبح الدوار اللّؤلؤة المختارة في التاج البحريني: نجم محلات التّذكارات. لقد كان، لبعض الوقت على الأقل، رمزًا للبحرين، أقرته الحكومة، وصوّره السّياح، وبرزت صورته على لافتات المحلات الضوئية.
تجوّل في البحرين يناير/كانون الثّاني 2013، وستجد رموزًا في كل مكان. مع إقامة الدّورة الـ 21 لكأس الخليج (وهي بطولة في كرة القدم تتم إقامتها مرتين سنويًا) في مدينة عيسى الرّياضية التي تم تجديدها، امتلأت الطّرق والشّوارع بأعلام ورموز مجلس التّعاون الخليجي، في إشارة إلى القمة التي عقدت في البحرين في ديسمبر/كانون الأول 2012. مع ذلك، في كل أنحاء الجزيرة، وراء الأشجار المُغَطاة بالأعلام الحمراء والبيضاء والشّارات الملكية، واللّوحات الزّاخرة بالزّعماء المبتسمين، وأعلام دول مجلس التّعاون الخليجي، نرى جدرانًا. وعلى هذه الجدران، يوجد الكثير من الصّور والرّموز التي تناهض الحملات الإعلانية لمجلس التّعاون الخليجي، المُمَولة من قبل الدّولة، لا سيما في القرى والطّرق الصغيرة الفرعية في المنامة. سترون الغرافيتي، باللغتين العربية والإنكليزية، ويمكنكم قراءة بعضها إن صادف مروركم قبل إعادة دهنها. في طبقات من الطّلاء، تحمل هذه الجدران آثار محادثة، أو حِجاج. صور وأسماء لسجناء سياسيين، صرخات تطلب المساعدة، أو دعوات إلى الكفاح. الكلمة الأكثر شعبية التي سترونها مكتوبة على الجدران هي "صمود"، مرسومة أو مكتوبة جنبًا إلى جنب مع صور لدوار اللّؤلؤة.
دوار اللّؤلؤة يظهر على جدران البحرين (بعدسة أمل خلف)
دوار اللّؤلؤة يظهر على جدران البحرين (بعدسة أمل خلف)
دوار اللّؤلؤة يظهر على جدران البحرين (بعدسة أمل خلف)
دوار اللّؤلؤة يظهر على جدران البحرين (بعدسة أمل خلف)
يافطات ائتلاف 14 فبراير/شباط تدعو النّاس للتّظاهر في الذّكرى الثانية ليوم الغضب في 14 فبراير/شباط 2011، يمكنكم هنا رؤية اللوغو الذي يشير إلى دوار اللّؤلؤة مع قبضة مرفوعة (بعدسة أمل خلف)
الدّوارات وفقدان الذّاكرة
غالبًا ما تُدرَج النُّصب التّذكارية مع رغبة بغرس شعور بالخبرة والهُوية المشتركتين في المجتمع. وكعلامات على تاريخ الأمة، تطبع الدّولة صورتها لدى المواطنين من خلال إقامة مثل هذه النّصب للشّخصيات والأحداث التّاريخية الأساسية. هذه الأفكار والرّسائل يمكن في الغالب أن تصبح مهملة، وتنسى معانيها الأصلية مع مرور الزمن. وقد كتب المؤرخ روبرت موزيل أنّه "ليس هناك في هذا العالم شيء مستتر مثل النصب التذكارية. لا شك في أن هذه النّصب تُنشَأ لكي تُرى ...ولكنها في الوقت ذاته مليئة بشيء ما يصد الاهتمام".
الآثار وإشارات المرور في البحرين (بعدسة أمل خلف)
وكعدد من دول مجلس التّعاون الخليجي، تمتلئ البحرين بدوارات تحوي نُصُبًا للآلئ والأسماك والصّقور وأشرعة السّفن وحيوانات الصّحراء. وبدلًا من أن تضم إشارات مباشرة إلى الشّخصيات أو الأحداث التّاريخية، تؤلّف هذه النّصب جزءًا من اللّغة البصرية والتّدوين المدني للهُوية الوطنية والإقليمية في الخليج. أحد مفاتيح هذا التدبير لصورة تسيطر عليها الدّولة هو إبراز "الثقاقة العربية التقليدية". يسلّط التّركيز على الأسرة الحاكمة كممثلين للأمة، التي بالتالي تمنح امتيازا للمسلمين السّنة والذكور والهويات القبلية. في الوقت ذاته، يتم التقليل من أهمية التأثيرات التّاريخية على البحرين، من العالم العربي الأوسع، ومن شبه القارة الهندية وبلاد فارس، أو تجاهلها، ويتم إسكات أي تاريخ نضالي. بدلًا من ذلك، يبرز اللّؤلؤ والسمك والصقور والأحصنة العربية والمها، متوسّطة كتابة التاريخ الوطني، كما رأينا في انتشار الصور الرسمية للملوك وتأطيرها على جدران أغلب المؤسسات في المنطقة. ومثل دوار اللؤلؤة، هذه الرّموز تُستَخدَم لبناء صورة عن الدّولة. ووفقًا لوصف عالم الأنتروبولوجيا سليمان خلف فإن:
"الأسر الحاكمة وحلفاءها ابتكروا التقاليد الثقافية، القومية، الأصالة، والقيم "التّقليدية"، واستخدموها لإبراز أنفسهم على أنهم حراس القيم والتّقاليد العربية الأصيلة، ولدعم "الهيكلية السّياسية للسّلالة الحاكمة".
قرب دوار عبد الكريم (رأس الثور) في منطقة سهلة في البحرين، فريق يُجَمّل المنطقة برسم صور لغواصين للآلئ ومراكب شراعية وأصداف المحار على الجدران(بعدسة أمل خلف)
"البحرين صديقة الأعمال"، شعار نراه في ختم الدّخول (بعدسة أمل خلف)
وفي أوائل الألفية الجديدة، مع بروز رسومات وترميمات مختلفة، أصبح دوار اللّؤلؤة الخليجي-الحديث محجوبًا بارتفاع المباني الشّاهقة حوله؛ على سبيل المثال مرفأ البحرين المالي ومركز التّجارة العالمي، المعالم المتألقة التي تبرز التّقدم والمكانة الوطنية. البحرين، سئمت على ما يبدو من شعارها التٌّقليدي "لؤلؤة الخليج" واتجهت لأن تكون "البحرين مركز الأعمال". هذه الأبراج البراقة الجديدة حلت مكان الدّوار في حملة إعلانية مقصودة لإعادة تشكيل صورة البلاد، "مُبرِزة " البحرين كمركز مالي رائد في المنطقة، وهي حملة امتدت إلى ختم الدّخول في الجوازات، وسيارات الأجرة السوداء في لندن.
وإلى جانب هذه الحملات الإعلانية، أصبح تاريخ صناعة اللؤلؤ في البحرين جزءًا كاملا من اختصاص وزارة الثقافة. وأصبح التراث الثقافي مشكّلا على وضع البحرين استراتيجيا في التّصور العالمي. يشرح خطاب المتحف الوطني البحريني "الاستثمار في الثقافة"، على سبيل المثال، كيف تعزز الاستثمارات الثقافية "عملية صياغة روابط ثقافية وتواصل عالمي". استثمارات الحكومة في الحملات الإعلانية واستراتيجيات التّمثيل الذّاتي على المستوى الدّولي تعكس أهمية السّيطرة والحفاظ على صورة للبلاد، تعزز خلق الحكومة لهوية وطنية مرتبطة بحد ذاتها ارتباطًا وثيقًا بوضع البحرين في المجال العالمي للاستثمار الأجنبي الدّولي. هذه التجربة للنّيوليبرالية المتقدّمة في البحرين، تسببت بتوسيع الفجوة بين المواطنين الأكثر فقرًا وأولئك الذين استفادوا من موقع الجزيرة كـ "الاقتصاد الأكثر حرية في الشّرق الأوسط". لكن معتقدات البحرين الجمعية حوفظ عليها من خلال قمع المعارضة وبنية تحتية مدنية مخصخصة، صمّمت للحفاظ على واجهة من الاستقرار، على واجهة للبحرين كمركز سياحي ملائم للأعمال.
في الواقع، كما كانت حركات المعارضة في البحرين نشطة على مدى عقود، كذلك كان جهاز أمن الدّولة، الذي يستهدف غالبًا المناطق المُهَمشة ذات الدّخل المنخفض، ويُخضِع المعارضين للتّعذيب والاحتجاز. هذه القصص العنيفة عن النّضال يتم تجاهلها وغالبًا يرفض ذكرها في روايات الدّولة. التّاريخ المُتنازع عليه للبحرين مُسيطر عليه بدقة، ويتطلب موافقة وزارة الإعلام -تم منع عدد من الدّراسات والإصدارات التّاريخية وإسكات أي روايات مضادة. وفي الوقت ذاته، أدّت زيادة الخصخصة إلى تقلص الأراضي العامة بما في ذلك اختفاء الشّواطئ العامة. التّجمعات الكبيرة لا يمكن أن تحصل بشكل قانوني إلا داخل الأحياء والمساحات الخاصة، ووجد البحرينيون صعوبة في الوصول إلى الأماكن العامة للتجمع فيها، ناهيك عن الجهر فيها بالمعارضة.
ووفقًا لوصف الكاتب والمهندس المعماري تود ريسز:
... قدمت الدّوارات للبحرين ميزة: مساحات مفتوحة من دون أن تفتح تلك المساحات للاستخدام البشري. فسحة من الحدائق الخضراء يتم عزلها من قبل حركة سير لا تتوقف... الدّوائر في الدّوار ليست أماكن، إنها فراغات. وبعبارة أخرى، ربما تمتلك البحرين مساحات خضراء، لكن هناك عدد قليل من الأماكن العامة تحتاج أن تُراقب.
ومن الأمثلة على ذلك السوق القديم في المنامة، الذي يقع في منطقة يشار إليها الآن على أنها قريبة من دوار السّمكة. هذا الحي المتهدم، المجاور لمحلات الأجهزة الكهربائية، والفنادق ذات النجوم الثلاث كارفان وعذاري، يضم حديقة مسورة صغيرة في دوار ذي مخرج واحد، في آخره سمكتان متشابكتان. كان هذا المكان قديمًا مركزًا لمبنى أول بلدية في الإقليم، والذي تم بناؤه في العام 1923، والذي استضاف مجلسًا بلديًا منتخبًا. كان يحيط بهذا المبنى شارع مفتوح حافل بالأسواق، وسوق اللحم، ومقاه ودور ضيافة صغيرة. كان السّوق، على جميع المستويات، مساحة مدنية ذات حياة سياسة مزدهرة. ولقد شهد، في أيام الحكم البريطاني، سلسلة من الاحتجاجات والتّجمعات العمالية: وهي حركة أصبحت أكثر قوة في السّبعينيات خلال تأسيس أول جمعية وطنية، ومن ثم انهيارها. اليوم، دوار السمكة -مع مقعد يكون غالبًا فارغًا وسيارات ودراجات موقفة إلى جانبه - يشكل ركنًا هادئًا في المنامة. لم تبقَ أي دلالات مادية على تاريخه، ولا يوجد أي آثار إلى أن هذا المكان كان يومًا ما مكانًا سياسيًا عامًا.
دوار السمكة، المنامة (بعدسة أمل خلف)
بالعودة إلى الأحداث التي جرت حوالي دوّار اللّؤلؤة، بدفع من الانتفاضات في مدن أخرى في المنطقة، كان هذا تحالفًا اجتماعيًا استجمع -في جزء منه- عبر الفايسبوك. في 14 فبراير/شباط 2011، انضم عشرات الآلاف من الأفراد إلى تظاهرة أدّت إلى احتلال دوّار اللّؤلؤة. ومع تجمد حركة المرور، أتى الإعلام الدّولي ليشهد رد الفعل الخليجي على "الربيع العربي"، وبين عشية وضحاها، خسرت الحكومة السّيطرة على الصّورة التي عملت على بنائها بحذر للبحرين "الصّديقة للأعمال"، مع نشر الشّبكات الإخبارية لصور المحتجين المحيطين بدوار اللّؤلؤة، والمطالبين بالإصلاحات. أصبحت الدّائرة مربّعا. تسمية دوار اللّؤلؤة بميدان اللؤلؤ Lulu Square في وسائل الإعلام الدّولية، على الرّغم من النّظر إليها من قبل البحرينيين في بادئ الأمر على أنها خطأ مثير للضّحك وناجم عن الجهل، سرعان ما أصبحت مُستَخدمة من قبل بعض المحتجين، الذين رأوا فيها إشارة إلى الدّور الجديد للدّوار كـ "ساحة مدنية" أو ميدان.
الاحتلال الذي لا سابق له "للميدان" أًصبح العنوان الرّئيسي للأخبار على الصّعيد الدّولي، ما أجبر المنامة على التّوقف نوعًا ما. وفي غضون أيام، كانت هناك محاولات من قبل الدّولة لقمع الاحتجاجات المتزايدة باستخدام الغاز المسيل للدّموع، والتّهديدات الأخرى باستخدام القوة، بلغت أوجها في حملة قمع عنيفة على الدّوار في السّاعة 3 صباح يوم 17 فبراير/شباط 2011. وخلال أربعة أيام، كان هناك مئات الإصابات وسبعة وفيات بين المدنيين. هذا الرّد الوحشي فاجأ الكثيرين من الذين شهدوا الأحداث سواء مباشرة أو عبر وسائل الإعلام الدّولية أو من خلال عدد من الفيديوهات ذات الصور المهتزة، التي تظهر الخوف، المصورة بالهواتف، والمنشورة على قنوات اليوتيوب. مع ذلك، على الرّغم من هذا القمع القاسي، عاد الكثيرون في تحد إلى دوار اللّؤلؤة، الذي أصبح الآن موقعًا للمأساة، وأعيدت تسميته بـ "ميدان الشّهداء" من قبل البعض.
ومع استمرار المعركة بشأن المساحات المتنازع عليها، كان هناك معركة أخرى تستعر في وسائل الإعلام، خصوصًا بشأن رواية أحداث حملة القمع في الدوار 17 فبراير/شباط. ومع استحواذ اهتمام وتغطية لا سابق لهما من قبل وسائل الإعلام الدّولية، تم ترحيل الصّحفيين الدوليين ولم يتم السّماح لأي منهم بالعودة. وشنّت وزارة الإعلام، مع تلفزيون الدّولة، حملة لتشويه سمعة الصّحفيين والمحتجين باستخدام منحى طائفي تكتيكي. وفي حين تحدثت وسائل الإعلام الدّولية عن المحتجين المطالبين بالدّيمقراطية، كانت تعابير الدّولة حافلة بالخائنين والعملاء الأجانب. وتمت الإشارة إلى الدّوار باستخدام اسمه الرّسمي: دوار مجلس التّعاون. وبعد أيام، في مسجد الفاتح، على بعد كيلومتر واحد من دوار اللّؤلؤة، تم تنظيم تجمع مضاد تحت مظلة سمّيت بـ "تجمع الوحدة الوطنية". لوح عشرات الآلاف من المواطنين بالأعلام البحرينية، ورفعوا صور الملك عاليا، كما تم توجيه رسالة شكر من قبل الملك لمنظمي التّجمع. وفي غضون ذلك، تم اعتقال المئات، بمن في ذلك الأطباء والممرضين والمدونين والصحفيين، وخسر المئات أيضًا وظائفهم لتغيبهم عنها خلال أيام الاحتجاجات.
وبعد مرور شهر على الاحتجاجات، تم إعلان الأحكام العرفية. وتوغلت مئات الدّبابات التّابعة لدرع الجزيرة على الجسر الذي يربط البحرين بالسّعودية. وللمرة الأخيرة، تم إخلاء الدّوار بالقوة، وإغلاق الطّرق الرّئيسية المؤدية إليه ومحاصرة القرى بالعربات المدرعة. وبعد أيام، وفي خطوة رجعيّة بشكل مذهل، بثّت القناة التّلفزيونية الرّسمية في البحرين مشاهد سرعان ما ستنتشر في الفضاء الإعلامي الرّقمي. وبينما كان الناس يشاهدون في شاشات هواتفهم وتلفزيوناتهم وحواسيبهم، انفجر نصب اللّؤلؤة ليتحول إلى كومة من العظام على أنقاض "ميدان" محتل.
وفي محاولة لإعادة عقارب السّاعة السّياسية، بدأت عملية محو صورة دوار اللّؤلؤة من الرأي العام، تم سحب عملة الـ 500 فلس التي تحمل صورة نصب اللّؤلؤة من التّداول وكذلك البطاقات البريدية التي تحمل صورته من المحلات السّياسية في السّوق، ومن المواقع الإلكترونية الحكومية. وفي تقرير محرر ومترجم على قناة 'Feb14 TV'، وهي واحدة من مئات القنوات التي ظهرت على اليوتيوب في البحرين منذ العام 2011، نرى لقطات من تلفزيون البحرين مع مقطع آخر من مؤتمر صحفي بعد أيام قليلة من البث. هذا الفيديو هو واحد من مئات الفيديوهات عن هدم دوار اللّؤلؤة: تعديل للّقطات الأساسية عن الهدم، التي بثها تلفزيون الدّولة، يتبعه "مشاهد لم تنُنشَر قبل"، اقتُطِعت من الفيديو الذي بثه تلفزيون الدّولة، تظهر حادثًا مأساويًا حيث قُتِل عامل مهاجر خلال عملية التّدمير الطائشة. ويعيدنا عرض سريع إلى مؤتمر صحفي لوزير الخارجية والمغرد البارز الشّيخ خالد بن أحمد آل خليفة، يشرح فيه كيف دمّر النّصب لأنه كان "ذكرى سيئة".
مثل هذه الأفعال يمكن وسمها بأنها من أعمال "إدانة الذّكرى"، وهي إجراءات كانت تتضمن تدمير صور شخص اُعلِن بموجب مرسوم حكومي كعدو للدّولة في العالم الرّوماني. مثل هذا المرسوم يعني أن اسم الشّخص المُدان تم شطبه بوضوح من النقوش والكتابات، وأزيل وجهه من التّماثيل، وتم التعرض للتّماثيل نفسها كما لو أنّها شخص حقيقي، في حين ستعاد صباغة اللوحات الجدارية وسحب القطع النّقدية التي تحمل رسمًا لأي شخص يوضع على اللّائحة السّوداء من التّداول، وتدمير أي وثائق أو كتابات تخصّه. وبهدم دوار اللؤلؤة، أصبح واضحًا لجميع الذين شاهدوه أن هذا النّصب الحجري الصّامت، الذي كان يومًا ما شاهدًا على الانتفاضة البحرينية، والذي رمز يومًا إلى التّقدّم الذي فرضته الدّولة، أصبح منذ ذلك اليوم عدوًا لها، وكان عقابه الهدم.
صورة لدوار اللّؤلؤة في يناير/كانون الثّاني 2010 (بعدسة شيماء بوعلي)
موقع دوار اللّؤلؤة سابقًا، في سبتمبر/أيلول 2011 (بعدسة شيماء بوعلي)
قيام اللؤلؤ
فيديو: الإعلان الترويجي للتعريف بقناة اللؤلؤة الفضائية قبل بدء بثها
ومع عدم وجود نصب أو دوارات أو عملات معدنية تحمل آثاره، تمت إزالة دوار اللّؤلؤة من رواية الدّولة من قبل حكومة تأمل خلق لوح نظيف تعيد فيه كتابة الذّكريات المسموح بها فيما بعد الانتفاضة. آثار دوار اللّؤلؤة أعيد نقشها للمرة الأخيرة عندما أُطلق على المنطقة، بطريقة استفزازية، اسم "تقاطع الفاروق"، وهو تقاطع محصن، لا يمكن الوصول إليه. وبعد سنتين من هدمه، ظل الوصول إلى الموقع الذي تمركز فيه نصب اللّؤلؤ يومًا ما غير ممكن: كل الطّرق التي تؤدي إلى التّقاطع الجديد مقفلة من قبل عربات شرطة مكافحة الشّغب والجنود. هناك أيضًا إشارات عن منع التّصوير الفوتوغرافي منعًا باتًا.
لكن على الرّغم من أنّه لم يعد موجودًا بشكل مادي، يقوم دوار اللّؤلؤة وينهض من تحت الأنقاض، ليس فقط من خلال الغرافيتي، أو كشعار لـ "ائتلاف 14 فبراير/شباط"، بل أيضًا من خلال آلاف الفيديوهات على اليوتيوب مثل هذا ومن خلال القنوات والصور التي تنتشر على الإنترنت، والأعمال الأدبية والفنية الساخرة. وكما هو الحال في عدد من الأمثلة التّاريخية على تحطيم الأيقونات، مثل الإزالة المُوثقة جيدًا لتماثيل صدام حسين في العراق في العام 2003، يضمن التّدمير الرّسمي للصّور والنّصب والرّموز -كما يمكن أن يقال- إنتاج الصّور. وكما يشير بول فيريليو، فإن إعادة الإنتاج الآلية للصور تشبه الاستنساخ الشبحي، وهي مثل إنتاج "للميت الحي" (الزومبي). وفي حالة البحرين، نرى دوار اللّؤلؤة كشيء بُعِث إلى الحياة، ودمّر من جديد، مرارًا وتكرارًا، في مشاهد هدمه. في هذه الصّور الرّقمية، نلامس حياة وموت دوار اللّؤلؤة": مشهد بعثه ومشهد تناثره وتلاشيه مجددا. يمكن عندها اعتبار وجوده المادي الهامد في صورة، على أنّه حياة، أو على الأقل "ليس موتا" - ناشط مخلّد، أو شهيد، أو عدو للدّولة، يغرس نفسه في ذكريات الشّعب البحريني، وينمزج يوميًا مع نوع معين من الوعي الجمعي.
ونظرًا لأهمية النّصب كرمز معاصر، يبدو تدمير صورته أمرًا شبه مستحيل بمجرد أن تم نشرها على الإنترنت، مهما بذل المرء من جهد وقوّة في محاولة تدميرها. هذه الاستنساخات لللّؤلؤة لديها القدرة على بث الاضطراب الاجتماعي والسّياسي بمجرد أن تعلق في دائرة من التّبادلات ذات المعنى على شبكات الإنترنت، مؤدية بالتّالي إلى روايات جديدة وذاكرات مضادة. ومثل "مشهد المرآة في فيلم سام رايمي في العام 1992 "جيش الظّلام" Army of Darkness، حيث برزت للعيان فجأة شخصيات مستنسخة شريرة من القطع المتناثرة لمرآة، يمكن تصور دوار اللّؤلؤة على أنّه المرآة المحطمة التي تبرز منها صور كثيرة تتطاير في الفضاء. كل صورة للنّصب تقدّم على شاشات يملكها ويشاهدها أفراد من خلال علاقتهم الذّاتية المتحيّزة بصورة النّصب. وفي ذلك، لا يمكن احتواء دوار اللّؤلؤة من خلال وجهة نظر واحدة تحديدًا لأنه يعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين.
وكما في حالة الأشياء، يمكن للصّورة أن تعمل بطرق متعددة تتبدّل باستمرار عبر الزّمان والمكان، عابرة بشكل انسيابي الوقائع والنزعات المتغيرة دائما. اليوم، حصلنا في البحث عن "دوار اللّؤلؤة" على يوتيوب على 4170 نتيجة باللّغة العربية و1720 نتيجة باللّغة الإنكليزية؛ أما البحث في صور غوغل، فأبرز 71900 نتيجة باللغة العربية و299000 نتيجة باللّغة الإنكليزية. البحرين، على الرّغم من كونها البلد الذي يمتلك العدد الأقل من السّكان في المنطقة، كانت موضوعًا لأكبر عدد من الهاشتاغات على تويتر، مع 2.8 مليون إشارة في نهاية العام 2011، في حين حصلت باللّغة العربية على 1.48 مليون هاشتاغ. ونظرًا لأن البحرين وصلت بشبكة الإنترنت منذ العام 1995، وقدّرت نسب استخدامه فيها بـ 77 بالمائة في العام 2011، خلق رواج هاشتاغ #Bahrain وانتشار مئات المواقع والمدونات والصّفحات على وسائل التّواصل الاجتماعي، أرشيفًا رقميًا على الإنترنت، لا يستطيع سوى أن يؤكّد أن العالم الافتراضي أصبح مركزًا للخطاب والذّاكرة المضادة. وإلى جانب موجة إعلامية لا سابق لها عن البحرين، من قبل المعارضة، وأنصار الحكومة والصّحفيين، كانت الحكومة البحرينية تنفق الملايين على الشّركات الدّولية للعلاقات العامة، لمكافحة الصّورة السّلبية. كانت الحكومة قد استعملت في وقت مبكر تويتر ويوتيوب عند بدء الاحتجاجات في العام 2011، ناشرة مواد إخبارية وسيلا من التغريدات على تويتر، في اتّجاه واحد من الجدال. المشهد البحريني على وسائل التّواصل الاجتماعي هو مشهد نابض، عنيف ومثير للجدل، يجعل التزاحم للحصول على الإجابات والمعلومات بشأن الاحتجاجات المستمرة صعبًا على نحو متزايد.
وفي مقاله الذي جاء تحت عنوان "نيتشه، وعلم الأنساب والتّاريخ"، يصف فوكو كيف تشق الذّاكرة المضادّة ما هو صلب متراص، وتمزق الروايات المتطابقة المفروضة من قبل الأقوى. تسمح "الذاكرة المضادة" للأرشيفات والوثائق والصّور المخدوشة والمفتّتة والمقموعة بأن "تبرز بوضوح" جنبًا إلى جنب مع تلك الصور المدعومة من قبل الرّوايات المتطابقة للسّلطة. وبخلاف موقعه كنصب صامت وغير مرئي، فإن صورة نصب اللؤلؤة بعد الهدم قابلة للتّحوّل، ومتغيرة على الدوام في دوائر من تبادل المعنى. هي لا تصلح أو تجمّد، بل بدلًا من ذلك، وكما كتب رولان بارتز عن الصورة الفوتوغرافية، "تحجب الذّاكرة، وتصبح بسرعة ذاكرة مضادة"، تحديدًا لأنها اليوم موجودة كصورة.
صورة لنتيجة البحث عن صور دوار اللّؤلؤة على غوغل، نوفمبر/تشرين الثّاني 2012.
الصّورة المشظّاة
أذكر دوار اللّؤلؤة على أنه البناء الأطول في الجزيرة. كطفل، بدا لي ضخمًا، لا يمكن الاقتراب منه؛ بدت السّيارة وكأنها تميل قليلًا مع دورانها في محيطه الكبير على نحو غير اعتيادي. كان هناك نافورات في قاعدة النّصب، وفي اللّيل، كما في العيد الوطني والأعياد، يتوهج بعروض ضوئية ملونة. رؤية النّاس على العشب المشذب في الدّوار أمر نادر، وهذه اللّحظات يمكن أن تشمل عادة رؤية عمال مهاجرين، في فترة الرّاحة من عصر يوم الجمعة، يخاطرون بالتّسلل بين السّيارات للوصول إلى الدّوار والتقاط صورة تذكارية. قد أسترق النظر من نافذتي، في محاولة لإلقاء نظرة على اللّؤلؤة، التي يبدو أنها تختفي في السّماء، وتتلاشى من مجال الرّؤية، مع اقترابنا أكثر.
مع استمرار الانتفاضة البحرينية، بعد عامين من هدم النصب بشكل عنيف، حظي دوّار اللّؤلؤة بمنزلة أسطورية. وفي حين ندور على الدّوار كأقمار صّناعية ضائعة، نشهد المظاهر المتعددة لهذا النّصب ذي المعنى المشحون سياسيًا، على حد سواء كشيء مادي منفجر، وكانفجار للملفات الإلكترونية. البحث عن صورة للدّوار على غوغل يعطي فقط لمحة عن نتاج هائل من الخطابات، ومزاعم الحقيقة، والرّوايات التي يولدها دوار اللؤلؤة. التّعديلات المُحدَثة عبر برنامج الفوتوشوب في الصّور المستخدمة ذاتها للدّوار تملأ المواد المنشورة في المدونات والمقالات والمنتديات على الإنترنت، التي تركز على موضوع الانتفاضة البحرينية. هذه الصّور والفيديوهات لدّوار اللّؤلؤة هي غالبًا بمثابة نصب تذكارية للدّوار ولاحتلاله. يُنظَر غالبًا اإلى الدّوار بحنين، كما في هذه النسخة الثّلاثية الأبعاد للنّصب مع عصافير تدور في هالة حول قمّته. إعادة خلق الدّوار في صور وفيديوهات ثلاثية الأبعاد هي أيضًا أمر شائع، إذ تصور النّصب كشهيد، وتبرزه في ألعاب فيديو، وفيديوهات الأبطال، مثل فيديو "الثورة البحرينية"، الذي ينتهي بانبثاق النّصب من البحر وتأدية التّحية له من قبل محتج واحد. في "أطفال البحرين وذكرياتهم"، نرى فيديو آخر على يوتيوب يعيد خلق نموذج للدّوار والمنطقة المحيطة به، يبنيه الأطفال مستخدمين رصاصات مطاطية وأسلحة أخرى مُستَخدَمة من قبل قوات الأمن البحرينية. وترافق موسيقى عسكرية مثيرة للعواطف صور هذا النّموذج مع نص يوجه اللّوم لعنف الدّولة على خلفية الذّكريات العنيفة لأطفال البحرين.
إنتاج ونشر واستخدام صور دوار اللّؤلؤة والخطابات المتولّدة حول هذه الصّور ترتبط أصلا برواية الأحداث التي أحاطت به خلال الانتفاضة، ناهيك عن ذكر دوره في احتدام المعارك السّياسية والأيديولوجية التي برزت منذ ذلك الحين. النّصب، الذي استُخدِم يومًا ما كجزء من الصّورة الاقتصادية للبلاد، تحول إلى نصب تذكاري للانتفاضة ضد نفس الدّولة التي أنشأته. هذا واضح في حالة عودة دوار اللؤلؤة إلى الظهور ماديا بشكل متعدّد في شوارع البحرين. من خلال الاحتفال به وإعادة إنتاجه، برزت مستنسخات عن الدوار في مناسبات وأحداث متنوعة، من الاعتصامات والاحتجاجات وحتى الاحتفالات الدينية مثل مسيرات عاشوراء السّنوية. في هذا الفيديو من أبريل/نيسان 2011-والذي تم تصويره خلال فترة كانت قد أُعلِنت فترة سلامة وطنية في البحرين وحُظِرت فيها التّجمعات والاحتجاجات، ترك النّاشطون في الشّارع نسخة من النّصب وقد أمسكت بها شرطة مكافحة الشّغب بحذر. حدث أمر آخر في يونيو/حزيران 2011 عندما أعاد عدة عناصر من الشّرطة تمثيل مشاهد هدم النّصب في أداء علني غير مقصود في دوار قرية عالي أثناء محاولتهم إزالته. بصرف النّظر عن كونهما أعمال تحدٍ، تمتلك هذه الاحتفالات وظيفة مشتركة: فهي تهدف إلى إعادة تنشيط شيء كان يومًا ما حياً.
وفي إعادة تصويره ونحته كجسم رقمي، نرى الفروق بين الطّمس الافتراضي والحقيقي، إذ تنفخ الروح في صورة دوار اللّؤلؤة، مع تعدد الكتابات، وإعادة الكتابات، والمزاعم، والذكريات، من قبل الدّولة والمواطنين. كصورة موجودة في كل مكان، فإن دوار اللؤلؤة هو نقطة التركيز Point of Focus في المعارك التي احتدمت في الشّوارع بين المواطنين والدّولة منذ العام 2011، لكن هذه الخطابات والرّوايات امتدت بعيدًا إلى ما وراء انتفاضة العام 2011. يمكنها أن ترجع إلى توصيف المواجهات بين المحتجين وقوات أمن الدّولة التي جرت في البحرين حتى قبل انتفاضة مارس/آذار في العام 1965. لطالما تم وصف المواجهات والاحتجاجات من قبل الحكومة البحرينية على أنّها أعمال شغب أو أعمال إرهابية، في حين تصف قوى المعارضة الصراع بالانتفاضة الشّعبية. وعلى الإنترنت، تبرز هذه الخطابات في المنشورات في المدونات ووسائل التّواصل الاجتماعي، في جدال بين الدّولة وأنصار الحكومة والمعلقين وأولئك الذين يعارضون الحكومة.
مشهد هدم دوار اللّؤلؤة، الذي تبلغ مدته 50 ثانية، والذي عرضه تلفزيون الدّولة للمرة الأولى إثر تدمير النّصب، استُخدِم مرارًا وتكرارًا في روايات مختلفة وأحيانًا متناقضة عن الانتفاضة البحرينية. هنا، ينتج مستخدم اليوتيوب محمد البوعينين فيديو يضيف فيه نصًا إلى فيديو هدم الدّوار وصورًا لوجوه شخصيات من المعارضة مع عبارة "ممسخرهم" (جعل منهم سخرية) مطبوعة على وجوههم، وعبارة "ههههههه" في أعلى فيديو انهيار الدّوار، ينتهي بطلب متابعته على تويتر من خلال حسابه@khalifa4ever، وهو يعكس رأيًا بشأن الاحتجاجات يتكرّر في فيديو يصوّر الاحتلال ككرنفال، ويحمل عنوان "فضيحة دوار الشّيشة". الفيديو، الذي يتضمن مقطعًا صوتيًا لطفل يضحك -يحتوي على صور للدّوار مع الشّيشة وحلاقة الشّعر والأطعمة، وظهور حتّى دمية بارني، في إضعاف لمصداقية الدّوافع السّياسية وراء تظاهرات المحتجين. ويختتم بنص يقول إن "هؤلاء الأشخاص لا يعرفون معنى الثّورة أو السّلام".
في فيديوهات أخرى، مثل "دوار المتعة"، يصبح الوجود المختلط بين الجنسين في الدّوار موضوع الخصومة الرئيس، مصوّرا الدوار بمكان "للقذارة" ولـ"المتعة"، وهو زواج مؤقت يسمح به المذهب الشّيعي. الفيديو، الذي نشره 'BahrainShield'، يعرض مونتاجا لصور أخِذت بعد عملية القمع وإخلاء الدّوار في 17 فبراير/شباط. تشويه سمعة المحتجين من منظور جنسي هو أمر شائع جدًا في التّعليقات المناهضة للمعارضة على الإنترنت وهو كذلك استراتيجية يستخدمها (الترولز) على الإنترنت لتشويه سمعة النّاشطات الإناث، اللّواتي لعبن دورًا أساسيًا في الانتفاضة البحرينية، وكنّ يشكّلن عادة أكثر من نصف عدد المشاركين في التّظاهرات والاحتجاجات في الشّوارع. وفي الجهة المقابلة، استخدم أولئك الذين يدعمون الاحتجاجات هذه اللّقطات أيضًا. ويظهر ذلك في فيديو "سنعود إلى ميدان الشّهداء" من قبل "AlBahrainRevolution". الموسيقى الدّرامية والمعالجة الكثيفة للقطات الأصلية ظهرت جنبًا إلى جنب مع صور الاحتجاجات وقوات مكافحة الشّغب وعنف الدّولة منتهيا بشكل درامي بحريق وانفجار وظهور دوار اللّؤلؤة كشعار لشبكة 14 فبراير الإعلامية، وهي واحدة من بين عدة شبكات للمواطنين الصحافيين، التي تنشر المواد الإعلامية على الإنترنت.
في هذا النّمط من إعادة إنتاج الصورة، فإنّ السطح الظاهري لدوار اللؤلؤة، بنيته، وأبعاده كلّها متغلغلة في دورة صور واسعة الانتشار تحاكي طبقات الطلاء السميكة، على جدران الغرافيتي في البحرين.
هذه الصّور الرقمية، مثل الفيديوهات التي ناقشناها أعلاه، تبرز "حرب أفكار" يتحرّك فيها سيل من الدعم في كل من الشّبكات الوطنية والعالمية، من خلال النّشر السريع جدا للصور، ما يجعل من الصّعب على الحكومة الدّفاع عن روايتها الاستراتيجية الخاصة. مع ذلك، فإن التفريق بين الواقع والخيال أصبح بذات مستوى صعوبة التّفريق بين الصّورة الأصلية والنسخة، خصوصًا عند التّفكير في صور دوار اللّؤلؤة، المتلاعب بها والتي لا نهاية لها، التي تقدّم دائما كدليل أو إثبات، بدلًا من كونها علامة على كيانات خيالية قابلة للتّغيير. إعادات التّخصيص الثابتة هذه تدفعنا إلى إعادة النظر في علاقتنا بالصّورة، ووجودها في العالم الافتراضي، حيث الصور لا يمكن تدميرها لأنها موجودة في شكل شفرات برمجية. الصّور الرّقمية هي بمثابة غشاء، السّطح اللّامع لوسائل الإعلام. والتّحدي عند رؤية مثل هذه الصّور ليس بخلاف تجربة أليس عندما وثبت إلى داخل المرآة في قصة لويس كارول عبر المرآة. العبور والعودة هما بمثابة محاولة الحصول، من خلال سطح الإعلام، المُشبَع بالعنف، على صور مؤثّرة، تصف واقعًا معقدًا ومظلمًا. مثل هذه الأفعال قد تساهم في الرّبط بين مثل هذه الأشياء كالذّاكرة والهندسة المعمارية، أو معنى المكان وتجربة النّضال في معاملة بين كلا جانبي الشّاشة.
وصف جان بودريار ذات يوم الصّورة على أنها مكان اختفاء المعنى. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، تساءل إلى أي مدى أصبحت بعض الصّور محاكاة ساخرة للعنف. لم تعد المسألة تدور حول صحة أو زيف الصّور، بل حول تأثيرها. يوحي هذا الأمر بأن الصّور نفسها أصبحت جزءًا أساسيًا من الصّراع والاحتجاج والثّورة والحرب. اليوم، يواصل دوار اللّؤلؤة حضوره كرمز من خلال العنف الذي يستذكر في صورته بسبب استشهاد المحتجين الذين ماتوا في الميدان وفي السّنوات التّالية، رمز إلى العنف الممارس على الذّاكرة الجماعية في البحرين، ورفض تمثيلها الذي ضمّن في صورة الدّوار. وفي هذا الصّدد، لدى البحرين نصب جديد ترى من خلاله العنف الماضي والحالي: وهو نصب يستعيد مكانًا لقصص وروايات متعددة لتأتي جميعا، وذلك من رواية متطابقة خاضعة للرّقابة من قبل الدّولة، إلى رمز لمجتمع ناشط ومسيس ومتنوّع. ومع العودة بالتّفكير إلى دوار اللّؤلؤة الذي كنت أحدّق فيه من نافذة السّيارة حين كنت طفلة طفلة، وإلى صوره اليوم-هذا النّصب الرّقمي- أصبح النقطة التي يتلاشى فيها الواقع. الصّورة نفسها أصبحت عنيفة.
تاريخ نشر المقال: 28 فبراير/شباط 2013
*أمل خلف، فنّانة، كاتبة، وباحثة بحرينية، وتعتبر اختصاصية في علم الصورة والفوتوغرافيا، تخرّجت من جامعة لندن بدرجة الماجستير في نظريات الفن المعاصر، من قسم الثقافات البصرية، وقد عملت في جامعة لندن كباحثة مشاركة لمدة 3 أعوام، وهي تعمل حاليا قيّمة معارض ومشاريع فنّية، في أحد أكبر المعارض بالعاصمة البريطانية لندن، والذي يستقبل أكثر من مليون زائر سنويا، كما أنّها شاركت في إدارة المنتدى الفني العالمي العاشر ضمن معرض آرت دبي، وقد صنّفت من قبل شبكة (لنكد إن) من بين أهم 15 شخصا في وظيفتها. تعالج بحوث أمل خلف مواضيع العمران، المجتمع، النشاط الإعلامي، والفن، من خلال المشاركة في مشاريع، ومبادرات إعلامية، وقد ظهرت خلف في العديد من المؤتمرات والمنتديات. برزت كتابات خلف في مجلات بحثية رفيعة أبرزها "ميدل إيست كريتيك"، كما نشرت على موقع مؤسسة إبراز، التي تشغل أيضا منصبا في أمانتها، وقد اقتبس مقالها هذا في العديد من الدراسات والبحوث الأكاديمية والسياسية، خلال السنوات الماضية، كما نشر في أكثر من مجلّة، وكتاب، آخره كتاب "انتفاضة البحرين... المقاومة والقمع في الخليج".
- 2024-11-13وسط انتقادات للزيارة .. ملك بريطانيا يستضيف ملك البحرين في وندسور
- 2024-08-19"تعذيب نفسي" للمعتقلين في سجن جو
- 2024-07-07علي الحاجي في إطلالة داخلية على قوانين إصلاح السجون في البحرين: 10 أعوام من الفشل في التنفيذ
- 2024-07-02الوداعي يحصل على الجنسية البريطانية بعد أن هدّد باتخاذ إجراءات قانونية
- 2024-06-21وزارة الخارجية تمنع الجنسية البريطانية عن ناشط بحريني بارز