احتضنت عاشوراء الخليج على مدى 150 عاما... المنامة: مركز ديني وسياسي خارج عن سيطرة النظام منذ القرن 19
2015-10-23 - 12:34 ص
مرآة البحرين (خاص): لا يوجد قطعا مدينة في الخليج، يمكن أن تضاهي المنامة، في التاريخ. هي وصلة نادرة بين الماضي والحاضر، هي علامة التمدّن الأولى، وبقايا تاريخ المدينة القديمة، في آن واحد. المنامة بالنسبة للبحرينيين، هي حالة تاريخية، سياسية، دينية، واجتماعية، تستدعي الكثير من التأمل والوقوف والدراسة.
منذ القرن التاسع عشر، والمنامة، بمساجدها ومآتمها وأحيائها الضيقة، كانت مركزا. مركزا للتظاهرات، ومركزا لمواكب العزاء، ومركزا لأهم المآتم والمساجد، ومركزا للعلماء والحوزات (النعيم تعتبر جزءا من المنامة وهي تحتضن واحدة من أقدم وأهم الحوزات: حوزة السيد علوي الغريفي). كذلك عرفت المنامة بأنها مركز للمعارضة السياسية ضد النظام، كانت مركزا للتظاهرات، والشعارات المناوئة، وتوزيع المنشورات، والخطب السياسية.
عاشوراء المنامة: مؤشّر لقوة الجماعات والتيّارات
يعرف حجم أتباع الجماعات، والتيارات، بل وحتى المراجع الدينية، من حضورهم في المنامة، وخصوصا في عاشوراء: كم مأتما لديهم، كم عدد الحضور لخطبائهم، أو متكلميهم، كم طول موكبهم العزائي، كم منشورات وزعوا، كم مأتما استضافهم، وإلى آخره من المؤشّرات.
حتى السفارة الأمريكية كانت متيقّظة لصحة هذا المقياس. في برقية سرّبتها ويكيليكس، تعود إلى أكتوبر/تشرين الأول 2009، عن تأسيس "تيار الوفاء الإسلامي"، بزعامة المناضل المعتقل عبد الوهاب حسين، تقول السفارة إن "احتفالات عاشوراء التي تشهد احتشاد عشرات الآلاف من الشيعة بشكل مركزي في العاصمة المنامة، من أجل المواكب الدينية، قد تزوّدنا برؤية وتقدير لقوّة تيّار الوفاء، الذي قد يستخدم المناسبة الدينية لاستعراض ما يمثّله من صوت جديد للمجموعات الشيعية المهمشة".
في المنامة، كانت حركة حق تستقطب الأتباع، وكانت خيمة الشهداء وضحايا التعذيب، تستمر في تذكير الناس بفظاعات النظام خلال التسعينات، وبضرورة محاسبة المعذّبين، وكانت جمعية التوعية تنصب خيمتها السنوية، وخيمة أخرى تعرض فيها محاضرات وأنشطة للجاليات الأجنبية. عاشوراء المنامة منتدى كبير، هو أشبه بالفضاءات الافتراضية اليوم، لا أحد ممنوع من أن يعرض أفكاره فيه، ولا أحد ممنوع من أن يطالع أي فكرة فيه.
محل رهبة
موكب عزاء قرب دار الإرسالية، 1908، أرشيف الإرسالية الأمريكية |
منذ القرن الماضي، والمنامة محل رهبة في عاشوراء. يتجمّع الرجال في أزقّتها المظلمة، ويقف النساء على قوارع الطريق في صفوف، وترتفع أصوات الشعارات الجريئة في كل مكان. شعارات، لا تطلق في أي مكان سوى المنامة، تتحدى السلطات من على مقربة من قلعة وزارة الداخلية. المنامة خارجة تماما عن سيطرة النظام في عاشوراء. موقف النظام في عاشوراء المنامة هو الترقّب والمراقبة، أما النشطون فيها فهم المعزّون، التيارات، الساسة، الخطباء، الرواديد، وعلماء الدين.
المنامة محل "الهيجاء"، كانت أكبر مكان يمكن أن يجمع عددا من الناس في وقت واحد. تبدأ مواكب العزاء فيها في وقت متأخر، ويحرص الآلاف على قصدها من قراهم ومدنهم البعيدة، للمشاركة فيها بعد الانتهاء من فعاليات مناطقهم. كثرة الازدحام، وكثرة مداهمات الشرطة، لطالما تسبّبت بهيجاء داخل هذه الأزقة (يسمّيها الناس هيجة).
المنامة أيضا هي مركز الصدامات في التسعينات. منذ السبعينات وهي تقدّم الشهداء، ومن هناك كان يخرج في الثمانينات موكب عزاء الشهيد، ذلك الموكب التاريخي الذي يقوم مقام مظاهرة، على أساس تطبيق قيم عاشوراء واستيحائها في النضال ضد النظام. فكرة هذا الموكب الأثير، أن يخرج من مكان غير معلوم، وفي وقت غير معلوم، وأن لا يتبع أي مأتم (اقتضت العادة أن تكون الحسينيات أو المآتم هي من يسيّر مواكب العزاء)، وأن يكون مشحونا بالسياسة، وبما لا يقال. كان الموكب أداة قوية ومهيبة جدا في الصراع مع النظام وقتها.
صحيح أن المنامة افتقدت بعد ثورة 14 فبراير، إلى الزخم السياسي الذي حصدته في التسعينات، لكنّ جماعات المعارضة المختلفة حاوت بقوّة إعادة هذا الزخم، ونجحت في مرحلة ما، قبل أن تغلق السلطات الأمنية الباب بكل حزم على أية محاولات أخرى، وتصدر قانونا رسميا غير مسبوق على مستوى العالم، يجرّم التظاهر في العاصمة كلّيا!
الوائلي والكعبي والغريفي والشيخ عيسى قاسم
صلاة ليلة الجمعة المركزية في البحرين كانت في مسجد مؤمن الشهير بحي المخارقة، في قلب العاصمة المنامة. الاحتفالات المركزية كانت أيضا في مسجد مؤمن، الذي ضم عبر التاريخ اجتماعات مهمّة منها تجمّعات لكبار رجال الدين في البحرين.
مآتم المنامة هي أقدم المآتم المعروفة والباقية تاريخيا في البحرين. المآتم ومواكب العزاء في المنامة تعتبر الأفضل والأعرق والأكثر استقطابا في البحرين تاريخيا، سواء على مستوى الخطباء أو على مستوى التنظيم. ورغم انتشار المآتم في البحرين ظلت المنامة مركزا، وصار يقال أن من لا يذهب للمنامة في محرم فكأنه لم يحيي عاشوراء. يسهر الناس في مواكبها حتى الصباح، وهي تضج بالطقوس طوال 24 ساعة.
في المنامة، ارتقى المنبر كبار الخطباء في العالم الشيعي، مثل الدكتور الراحل الشيخ أحمد الوائلي، والشاعر البحريني الكبير الملا عطية الجمري، والشاعر الكبير الملا علي بن فايز، والشيخ عبد الزهراء الكعبي، والسيد جابر الآغائي، وهناك صلّى السيد أحمد الغريفي، ومن بعده الشيخ عيسى قاسم (كان يأتي من محل سكنه في الدراز ليؤم الصلاة بمسجد الخواجة).
كل التيارات مرّت من هناك
المنامة أيضا كانت مركزا للتفاعل مع أحداث كبرى على صعيد العالم الشيعي، ومركزا لانبثاق حركات متعاطفة أو متماهية مع حزب الدعوة بقيادة الراحل محمد باقر الصدر، والثورة الإسلامية في إيران، بقيادة الإمام الخميني، وكذلك مركزا لأتباع التيار الشيرازي، بزعامة المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي، وابن أخته الذي كان يحمل الجنسية البحرينية، السيد هادي المدرّسي.
إذا كان هناك ثمّة فكرة يمكن أن تهيمن على البلاد، أو ثمّة تيار يمكن أن يسود فيه، فكان ذلك يجب أن ينبثق من المنامة، أو أن يأخذ فيها موطئ قدم. من هناك نشأ التيار الولائي (تيار ولاية الفقيه)، ونشأ التيار الشيرازي، وقبلهما كان الشيخ خلف العصفور والشيخ باقر العصفور يسوسان أمور الطائفة الشيعية من المنامة أيضا، وهكذا.
المنامة أيضا، هي المكان الذي يظهر فيه البحرينيون من أصول فارسية هويّتهم بكل أريحية، لأن مأتمهم الرئيس، وهو مؤسسة تاريخية تعد من علامات العاصمة، لا يزال رسميا يسمّى بمأتم "العجم".
المنامة تعكس مزاج الناس العام. كل الحركات والاتجاهات والتيّارات والأفكار مرّت من هناك، هي لا تزال تحتضن عتيق هذه التيارات الفكرية وبقاياها، وفي الوقت نفسه لا تزال تنتج وتترعرع فيها التيارات الحديثة إلى حدّ ما. ربّما لذلك رأينا أنّها احتوت على أكبر عدد من المرشّحين للانتخابات النيابية في العام 2006 (شارك فيها 13 متنافس وفاز فيها خليل المرزوق).
المنامة محل لشتى أنواع الاستعراضات، وكذلك الخلافات. هنا تربو الخلافات وتنضج، وتصدر المنشورات من تيار ضد الآخر، ومن زعيم ضد آخر. المنامة حية فاعلة حتى في خلافاتها. هي حالة أثيرة على غزارة الإنتاج الثقافي والاجتماعي في البلاد، تناقضاته، وتطوّره التاريخي.
حتى حين اجتاح المد الاشتراكي والتقدّمي، كانت المنامة علامته. مواكب العزاء (الدينية) وقتها كانت تحتفي بساسة البحرين، حتى المحسوبين منهم على هذه التيّارات (عبد الهادي خلف مثالا).
مقر الباليوز ومنبثق هيئة الاتحاد الوطني
المنامة أيضا هي مقر الباليوز، مكتب المستشار بيلجريف، الذي شهد مجموعة من الاحتجاجات التاريخية منذ العشرينات وحتى مغادرته.
في الخمسينات، كانت الحادثة التي أشعلت التوتّرات في البلاد، وأدّت إلى تأسيس هيئة الاتحاد الوطني، في عاشوراء المنامة أيضا، حيث هاجمت مجموعات موكب العزاء في يوم العاشر سنة 1953 قرب مدرسة الزهراء. الهيئة (وهي لجنة سياسية كوّنت من أعضاء سنّة وشيعة وحشدت عشرات الآلاف من الأتباع من الطائفتين) أقامت لاحقا العديد من فعالياتها في المنامة، وهي فعاليات شارك فيها السنّة والشيعة، وألقى فيه شاعر البحرين عبد الرحمن المعاودة قصائد ثورية، منها قصائد نعى فيها الإمام الحسين بمناسبة ذكرى الأربعين.
مدينة قديمة تختصر التاريخ والهوية
هو شيء غريب أن تصبح مدينة قديمة، بأحياء ضيقة وعشوائية، مركزا دينيا طوال كل هذه الفترة التاريخية، رغم هجرة الغالبية العظمى من أهلها، وتحوّل منازلهم إلى خربة.
هناك حرص كبير من مجموعات البحارنة، والعجم، على استمرار تمثيلهم في المنامة (التي يعيش فيها أيضا مجموعات من القبائل النجدية، وغيرها من الإثنيات والأعراق). المنامة دلالة حديثة على الأصالة، وربّما دلالة على الهويّة. من له صلة بالمنامة، يعني أن له صلة بكل تاريخ البحرين: القديم، الحديث، والمعاصر، وهذه المجموعات تعاني بشدة من محاولات التهميش، وقطع صلاتها بحاضر وماضي البلاد، لذا هي تحافظ على هذا الإرث، خصوصا مع وجود العامل المشترك القوي، وهو المذهب.
لا تزال المنامة إلى اليوم قبلة عاشوراء، التي استطاعت أن تستقطب البحرينيين، حتى من الطائفة السنّية الكريمة، لحضور طقوسها المركزية المهيبة. هناك، في عاشوراء، سترى أجانب غربيين يتجوّلون (يلبس بعضهم السواد تعاطفا)، والعمّال الآسيويين يقفون عند المضيفات، وغيرهم من أصناف الخلق.
تروق لأهل المنامة، بمختلف مشاربهم، نشر صور قديمة لخط سير مواكب العزاء المتّفق عليه منذ الخمسينات. هي جزء من تراثهم وتاريخهم وهويّتهم. سيؤم المعزون المنامة هذا العام في حضور أمني يزعم بأنه لحمايتهم من تفجيرات داعش، لكنّها ستظل دائما خارج سيطرة النظام. للمنامة رب يحميها!