» تقارير
أبناء الشهيد الموالي: كأنها ليست أبانا..جمجمة مهشمة وجسد مبضع
2011-12-19 - 3:16 م
ولي جَسَدي المُؤَقَّتُ ، حاضراً أم غائباً …
كأنَّ شيئا ً لم يَكُنْ...
جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ .…
والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ...
ومن أَبطالِهِ …
يُلْقي عليهمْ نظرةً ويمرُّ …
هذا البحرُ لي..هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي...
واسمي –وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت – لي..
أَما أَنا - وقد امتلأتُ بكُلِّ أَسباب الرحيل..
فلستُ لي..
أَنا لَستُ لي... أَنا لَستُ لي..
محمود درويش
مرآة البحرين (خاص): هل هذا أبي؟ ما الذي حصل له؟ هل غير الموت كل ملامحه هكذا؟ منصدما يتساءل ابن الحاج الشهيد عبد علي الموالي.
لم يستطع أن ينظر إليه في المغتسل، ولكن أحد من شارك في تغسيل والده أخبره بأنه لأول مرة يرى جثة بهذا الشكل، شاهد الصور وكان وقع الصدمة عنيفا جدا عليه.
آلة الحب
مساء الجمعة ليلة السبت، ثاني أيام ملحمة البديع، استمر العقاب الجماعي على جميع قرى الريف الشمالي، إنسانها وأحجارها. قنابل الغاز التي لم تعد مسيلة للدموع، أطلقت بحيث لا تترك حيا من أحياء شارع البديع دون أن تصله، كأن هناك قائمة بأحياء وطرق القرى، كلما انتهت سلطة القمع من إغراق حي منها، وضعت أمام خانته علامة ü. المهمة تنتهي بأن يصل الغاز إلى كل حي.
هدنة قصيرة بعد صلاة المغرب، مكنت الحاج السبعيني عبدعلي الموالي أن يذهب مع ابنه إلى مخبز القرية، رجعوا إلى البيت ومازح ابنه كعادته حتى يصنع له العشاء الأخير بيديه. كان الحاج حيويا ونشيطا وبكامل صحته وعافيته، قاد سيارته "بيكب" في أنحاء القرية قبل يوم واحد، بدا مظهره طبيعيا جدا.
مائدة عشاء سعيدة جمعت الحاج بأبنائه، أوقات أخيرة من الحب الذي يقاوم وحده آلة القتل والتشفي.أغلق أبناء الحاج فتحات التهوية في المكيفات، أحكموا إغلاق الأبواب والنوافذ، لكن النوع الجديد من الغازات السامة القاتلة نفذت إلى منزلهم في ليلة قمع لم تشهد قرية المقشع مثلها حتى في التسعينيات كما عبر أحد أبناء الشهيد "وضعنا على أبي فورا جهاز التنفس الذي اشتريناه خصيصا لهذه الأوقات" لكن ذلك لم يعد نافعا.
الجميع أحس باختناق شديد جدا، وضيق بالغ في التنفس. أحد أبناء الشهيد يتقيأ، ما يخرج من فمه يحمل لونا أصفر. والده يستغيث "لم أعد أستطيع التنفس" انقلب حاله تماما.
"لم يعد يستطيع الوقوف، صرنا نحمله للحمام والسرير، طلبنا منه أن ننقله للمستشفى ورفض لأن أصوات الطلق تتواصل في الخارج ويمكن سماعها قريبة جدا" يقول ابن الشهيد، ويضيف "فجأة اكتشف أبي أن الإسهال خرج منه دون أن يحس!" لم يعد يسيطر على نفسه، وكان لون الإسهال غريبا جدا، الجميع أصيب بالصدمة! مع ذلك ظل الشهيد رافضا الذهاب للمستشفى، أعتذر كثيرا من أولاده لأنه أتعبهم وشغل وقتهم كما قال، وحاول النوم.
آلة القتل
كان الغاز الجديد الذي بدأ يستخدم منذ فترة قصيرة له رائحة نافثة، ويسبب أعراضا غريبة جدا، يعتقد كثيرون أنه ليس غازاً مسيلاً للدموع. حتى البارحة، كان هذا الغاز يستخدم!
شهود كثر قالوا لمرآة البحرين إنه تسبب لعديدين بالإغماء المباشر أو دوخة الرأس بعد أن استنشقوه. يصف آخرون من أصيب بالغاز بأنهم كانوا كالسكارى، مخدرين دون إدراك. آخرون قالوا إنهم عانوا كثيرا من معدتهم بعد استنشاقه. وأجمع شهود أحداث مساء أمس "الأحد" على أن أعراض الغاز الجديد لدى من نفذ إلى جسمه هي الإسهال والقيء.
في السادسة فجرا طلب الحاج من أولاده نقله للمستشفى على عجل. متكئا على ابنه يدخل الحاج المستشفى، يلتقي الأطباء، يقول لهم "أنا مختنق من مسيلات الدموع" يقرر الأطباء نقله إلى غرفة الإنعاش فورا.
لم يكن الحاج الموالي مختنقا، هذا ما أثبتته التحاليل المبدئية. لون خروجه وتحاليله أثبت أنه تعرض إلى تسمم، وتحليل دمه وضح حالة التسمم: ثاني أكسيد الكربون! هكذا قال الأطباء والممرضون لابن الشهيد فور ظهور النتائج. دخل على والده غرفة الإنعاش، عيناه مفتوحتان، لكنه لم يعد يجيب!
دجل الموت
لم يشتك الحاج يوما من فشل كلوي، أو زيادة في الأملاح. تفاجأ ابن الشهيد بأن طبيبا آخر غير الأطباء الذين باشروا حالة والده يبلغه بأن ذلك هو سبب الوفاة. طلب الطبيب منه الحضور إلى غرفة الانتظار بعد أن أخليت، ووقف أحد الشرطة على الباب مستعدا "تستطيع أن تستلم الجثة الآن لو أحببت" يرفض ابن الشهيد.
يذهب إلى مركز الشرطة يقدم بلاغا لانتداب طبيب شرعي، يطلب منه الضابط الذهاب للمشرحة ومن ثم للنيابة العامة، يعدل عن طلبه بعد قليل "اذهب للنيابة العامة فقط" ضابط آخر قال له "إذا اتهمت الشرطة قد ترفع عليك قضية رد اعتبار" فرد عليه "أنا متأكد تماما أن سبب وفاته مسيلات الدموع".
يقابل ابن الشهيد وكيل النيابة، يحقق معه الوكيل وكأنه المجرم. يصل وكيل النيابة اتصال على هاتفه النقال، وهو يتحدث كان وكيل النيابة يردد "هلا دكتور...تلف في الرئة؟!!" يخرج وكيل النيابة سريعا ليكمل حديثه خارج المكتب. يرجع، ويطلب من ابن الشهيد أن ينتظره في الخارج، ليتفاجأ بحضور ضابط مركز شرطة البديع أيضا!
يجتمعان (الوكيل والضابط) وبعد أن يغادر الضابط يستدعى ابن الشهيد "هل تتهم رجال الأمن؟" يرد ابن الحاج الموالي "أتهم من رمى مسيلات الدموع على بيوتنا" يتصفح وكيل النيابة تقريرا بين يديه وهو يوجه الأسئلة لابن الشهيد، ينهي التحقيق ويلمح إلى أن الوفاة تبدو طبيعية، يرد ابن الشهيد "نريد تقرير الطبيب الشرعي"... "لن يكون جاهزا الآن، انتظروا".
يتفاجأ ابن الشهيد وهو في المقبرة بأن وزارة الصحة ومن خلفها النيابة العامة ووزارة الداخلية، اجتمعوا كلهم لينفوا ما سموه ادعاء وفاة أبيه بغاز مسيل الدموع. التصريح لوزارة الصحة، الناشر وزارة الداخلية، والوسيلة "تويتر": سبب الوفاة "فشل كلوي وكبدي وتسمم في الدم، وتوقف في الجهاز التنفسي" لكن الوفاة "طبيعية"!
فيما بعد يصدر بيان آخر سريعا عن الداخلية يحذف منه "توقف الجهاز التنفسي": الحاج توفي بسبب "صدمة جرثومية" في الدم، تسبب في إصابته بها "فشل كلوي حاد ونقص في كريات الدم البيضاء". وهو ما جاء أيضا في شهادة الوفاة! ترجع الوزارة إلى ملف الحاج، لتعرف متأخرة بأنه يتعالج عن مرض "ورم الغدد اللمفاوية"، وتذكر ذلك في بيانها الجديد.
التوفيق بين هذه المخرجات صعب جدا، ولكن مهمة البيان هي أن يقول إن الحاج لم يمت بسبب الغازات التي تعرض لها قبل ساعات، مع ذلك فإنه لم يقل إن الحاج لم يتعرض للغاز.! البيان أيضا قال إن ما ذكره هو بحسب "الطبيب المعالج"
قبل أسبوع واحد، حصل الحاج على آخر جرعة معالجة من السرطان، لكي يعطى الجرعة يتم تحليل دمه بالكامل، كان دمه سليما تماما، وحالته مستعدة لتلقي العلاج. الطبيب قال لابنه إن أباك هو أفضل حالة استجابت للعلاج عن هذا المرض، وقد شفي بنسبة كبيرة منه.
بعد نقله للإنعاش صباح السبت، يخرج الطبيب بعد معاينته الحاج، يقول لأبنائه، لا توجد عليه أعراض أو مضاعفات الغدد اللمفاوية..... مساء السبت، رفع الله روح الحاج الموالي إليه، وأبقى جسده الطاهر شاهدا "مغيبا" على جريمة النظام. وليت الله رفع جسده إليه أيضا!
آلة التشفي
قبل أن يغادر المستشفى متجها نحو المركز، دخل ابن الشهيد ليلقي على أبيه نظرة الوداع، قبّله فوق رأسه، واحتسبه شهيدا عند الله تعالى.
جسد الحاج الموالي دخل مشرحة السلمانية، منع ابنه من الذهاب إلى هناك. بعد خروجه من النيابة ذهب لتسلم الجثة، تشريحها كان قد انتهى، الإذن بالتشريح وصل السلمانية دون أوراق مكتوبة ودون حضور أبناء الحاج الموالي.
لم يخرج جسد الحاج من المشرحة كما دخل، كان جسدا آخر "ليس له" كما يقول محمود درويش. لم يعرف أحد ذلك سوى على مغتسل الأموات. من غسلوه كانوا في دهشة مما يرون، هي الجثة الأولى التي تمر عليهم بهذا الحال رغم عدم تعرضها إلى ضرب أو اعتداء.
يقول أحد من غسل الحاج "وصلت الجثة بطريقة مزرية جدا، لم تتبع الإجراءات المعتادة في كل جثة معها، لم تربط الرجلين ولا اليدين، لم يوضع القطن، لم تلف لفة الأموات، دماؤها كانت تنزف، ولم تكن معها أوراقها الصفراء" ويضيف "كأن أحدا ما لف الحاج من فوق السرير وأتى به!"
الدهشة والصوت المكسور لم يفارق الرجل وهو يتحدث "ملامح وجهه ورأسه وجسده كانت مرعبة، كأنه تعرض إلى دهس أو سحق" ويضيف "أول ما نظرنا إليه تفاجأنا بجسده مشقوقا من تحت السر إلى أسفل الذقن" وهو أكبر مما يتطلبه مقدار التشريح بكثير.
لم يكد يحرك الحاج الشهيد حتى انقلب، جسمه صار هشا كثيرا، تنبعث روائح غريبة جدا من فمه "لم يبق من أجزائه سوى المعدة" هكذا قال الشاهد الذي شارك في تغسيل الشهيد، بعد تفحص جسمه بخبرته الطبية، قال: لقد سرقت أعضاؤه!!!
ليت ذلك كان الشيء الوحيد الذي شوّه شكل الحاج الموالي، حتى صار غريبا على ابنه الذي للتو كان عند رأسه في المستشفى. جمجمة رأسه متحطمة تماما، مكسرة ومشوهة، ورأسه خالٍ أيضاً كجسده، كان هناك شق قطع رأسه من الأذن اليمنى إلى اليسرى!!!
لا أحد يعرف ماذا فعل مستشفى السلمانية ومن يحتله بأعضاء الشهيد؟ ولماذا فعلوا ذلك؟ ما الذي وجدوه في أعضاء رجل سبعيني حتى يمثلوا بجثته كل هذا؟ هل خافوا أن يكشف أحد ما بها من سموم؟ هل سرقوها لبيعها واستخدامها؟ أم أن ذلك لم يكن سوى تشفيا وانتقاما وتمثيلا متعمدا بالجثة!
ربما كان هؤلاء يصنعون بالحاج السبعيني الوقور ما صنعوا وهم يضحكون ويشمتون أيضا. يقول الشاهد "كأن أحدا كان يضرب رأس الشهيد بمطرقة حتى تغيرت ملامح وجهه تماما ودخلت على بعضها"
كل هذا وما يزال هم أبناء الشهيد أن يثبتوا للعالم يقينهم بأن والدهم قد نال الشهادة، بينما كان الحاج قد نالها مرتين.
البارحة تصورت كثيرا وجه الشهيد، وقلت ماذا يمكن أن يقول، هو لن يعدو محمود درويش في نعيه نفسه:
وكأنني قد متُّ قبل الآن …
أَعرفُ هذه الرؤيا
وأَعرفُ أَنني أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ
رُبَّما ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأَعرفُ ما أُريدُ …
سأصيرُ يوماً ما أُريدُ