محمد وعروسه يتحديان: سنحفر على وجه الجدار، وسنفتح ثغرة للنور، ولن نموت
2014-10-22 - 12:03 ص
"إن السجين المظلوم الذي يستطيع أن يهدم جدران سجنه ولا يفعل يكون جباناً".
جبران خليل جبران
"سنحفر على وجه الجدار أما فتحنا ثغرة لنور أو متنا على وجه الجدار".
مرآة البحرين (خاص): سيقول كل من محمد (26 عاماً) وعروسه زينب (22 عاماً) لأطفالهما يوماً: لقد فتحنا بحبنا في سجن الجلاد كوّة من نور، كوّة كلّلت ظلام حياتنا قبل أن نوجدكم إلى النور. سيقولان لأبنائهما وهما يلقناهما درس الحفر على الجدار العتيد: السجين المظلوم الذي يستطيع هدم جدران سجنه -ولو بكوّة - ولا يفعل، يكون جباناً، ونحن أبناء شعب يهدم جدران زنازينه كيفما يستطيع ولا يجبن، فلا يُهزم إلا الجبان.
ليس أقوى من أن تؤسس عقداً يفتح حياتك في المكان الذي أريد له أن يكون مقبرتك، وليس أقوى من حمامة حب تسخر من جدران الكراهية التي يقمعك خلفها الجلادون. لم يكن عرساً تراجيدياً ذلك الذي شهدته المحكمة الجعفرية يوم أمس الأول 19 أكتوبر 2014 رغم تراجيدية كل شيء حوله، ولم يُرد له العريسان أن يكون عرسهما كذلك، لقد جاء مؤلماً نعم، مؤثراً نعم، لكنه ظلّ قوياً. فالألم ليس ضعف طالما أنه قادر على هدم الجدار، لا سيما حين يكون جدار زنزانة قادرة. ثمة ألم متحدٍ، صانع، ومحمد وزينب صنعا حدث حياتهما الأهم، في وضع هو الأصعب.
كانت قلائد العرس تنتظر دخول محمد إلى قاعة المحكمة الجعفرية حيث (صالة) عقد الزواج ، وسلّة مشموم مخلوطة بالحلويات والقطع النقدية، تنتظر من ينثرها على رأس العريسين كما هي عادة البحرينيين في أفراحهم. لا يُلقى المشموم فوق الرؤوس بل الأمنيات. الرائحة الزكية (المشموم)، والحياة الحلوة (الحلوى)، والوفرة من المال، كلّها أمنيات يحملها المحبون لمن يحبون.
دخل محمد قاعة المحكمة لا كما يدخل العريس قاعة عرسه، لم يكن في كامل أناقته، ولا بعضها، ولم تسبق دخوله زغاريد الفرح وأنغام الموسيقى، بل دخل في كامل قيوده وعلى وقع أنغامها محاطاً بالجلادين وسط حراسة مشدّدة، لم يشفع له أنه مقدم على عقد قرانه ليفضّ الجلاد القيد عن يده قبل دخوله قاعة زفافه (المحكمة). ليس ذلك غريباً، فالجلاد لا يعرف الحب، قلبه المتبلد الأحاسيس لا تطرفه المشاعر الإنسانية، ولا تدق عند بابه الحديدي.
في داخل القاعة كانت زينب تترقب دخول حبيبها وقلبها يرجف شوقاً وحباً، وألماً أيضاً. زينب هي الأخرى بلا زهوة عروس، بلا فستان أبيض وبلا ألوان تعلو وجنتيها وتشهق لها صديقاتها وأهلها، لكن زهوة أخرى كانت ترجف في قلبها: لقيا حبيبها، أن تتمكّن أخيراً من لمس يديه وشم رائحة سجنه بدلاً من رائحة المشموم.
لم تملك زينب دموعها وهي توكل الشيخ لعقد قرانها في مكان بلا زهوة ولا أثر للفرح فيه، انحدرت دموعها بهدوء صامت قبل أن يأتي جوابها مرتجفاً خجولاً وخافتاً: قبلت. غصّة -يفهم مغزاها البحرينيون وحدهم- علت عيون الحاضرين في قاعة المحكمة. الصمت كان أبلغ من الزغاريد. دموع زينب آلمت محمد الذي نكّس رأسه وكأنه يعتذر من زينب: "سامحيني يا حبيبتي، كنت أتمنى أن أجعل عرسنا حدثاً يتحدث عنه الجميع"، لكنه في الحقيقة لم يخطئ أمنيته، فقد صار عرسهما حدثاً يتحدث عنه الجميع فعلاً.
سرعان ما انقلب كل شيء بعد إتمام عقد الزواج، تحويل التراجيديا إلى فرح آخر هي لفتة أخرى لا يعرفها مثل البحرينيين. تناثرت الصلوات والزغاريد مع المشموم والحلوى والنقود فوق رأس العريسين. ابتلعت الوجوه غصتها وتهللت بالبسمات ودموع الفرح، أُلبس العريسان قلائد الورد وتلامست الأيدي للمرة الأولى وخفق القلب. صار الجميع حضناً يهنئ ويبارك، ودخل الفرح قاعة المحكمة كما لم يدخلها من قبل.
لم يتمكن محمد من اتمام إلباس محبوبته خاتم الزواج الذي كان مقرراً قبل أحداث العام 2011، قطعها اعتقاله الانتقامي خلال فترة السلامة الوطنية سيئة الصيت وإحالته إلى محاكمها. لفّقت له أربع قضايا أمنية وتمت إدانته. وصل مجموع أحكام سجنه 21 سنة وثلاثة أشهر. حكم بالسجن لمدة 15 عام بتهمة «قطع لسان المؤذن» المعروف فبركتها وزيفها، والسجن 3 سنوات في قضية «المرفأ المالي»، و3 سنوات أخرى بتهمة «الاعتداء على شرطي»، و3 أشهر بتهمة «التحريض على كراهية النظام»، بالإضافة إلى تغريمه مبلغ مئة دينار. أمضى محمد أكثر من عامين من مدة محكوميته وتبقى عليه 19 عاماً.
لقد تحدّت زينب الـ21 عاماً المحكوم بها حبيبها وربطت قلبها بحبّها، وتحدّى محمد الـ19 عاماً الباقية من حكمه وخرق جدار زنزانته بكوّة حبّه. لقد أصر كل منهما أن يجعل نفسه مقيداً بطوق الحمامة لا طوق الزنزانة، وأن ينتظرا معاً مصيرهما المجهول في بلد كل مصيره مجهول. لكنهما يعرفان تماماً أن جدران الزنازن أضعف من قوة الحب، كما جدران الطغاة أضعف من قوة الشعب. إنهما يتحديان المقولة الخالدة التي تقول: "سنحفر على وجه الجدار أما فتحنا ثغرة لنور أو متنا على وجه الجدار"، إنهما يقولان لنا: "سنحفر على وجه الجدار، وسنفتح ثغرة للنور، ولن نموت على وجه الجدار".
- 2024-11-13صلاة الجمعة.. لا بيع أو شراء في الشعيرة المقدّسة
- 2024-11-13ملك المستعمرة أم ملك البحرين: كيف تتعامل المملكة المتحدة مع مستعمرتها القديمة؟ ولماذا لم تعد تثير أسئلة حقوق الإنسان على فارس صليبها الأعظم؟
- 2024-11-05الجولة الخائبة
- 2024-11-03هكذا نفخت السلطة في نار "الحرب" على غزة كتاب أمريكي جديد يكشف دور زعماء 5 دول عربية منها البحرين في تأييد عمليات الإبادة
- 2024-10-29هذه النماذج التي صدّرتها عائلة آل خليفة للعالم العربي