والد الشهيد العبار: الرجل الذي عرّف الأنفة... بصيغتها الثورية البحرينية!
2014-07-07 - 12:39 ص
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ
وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِيـسَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنَت على فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ
وَدِّعا أيّها الحَفيّانِ ذاكَ الشَخْصَ إنّ الوَداعَ أيسَرُ زَادِ
واغْسِلاهُ بالدّمعِ إنْ كانَ طُهْراًوادْفِناهُ بَيْنَ الحَشَى والفُؤادِ
أبو العلاء المعري
مرآة البحرين (خاص): هل يمكن أن يكون والد الشهيد العبّار فرحا بهذا النصر، رغم أنّها ليست سوى مناسبة للنوح والبكاء؟ هل يمكن أن يكون مرتاحا الآن لأنه ابنه سيدفن أخيرا؟ كل هذا يختفي خلف تقاسيم هذا الرجل، كما تختفي روحه العالية، خلف مظهره البسيط.
هو رجل يعرّف الأنفة، بصيغتها الثورية البحرينية: ليس الفقر سببا يدعوك لأن تكون خاضعا أو ذليلا أو متنازلا، متى ما اجتمع مع الكرامة.
صبر هذا الرجل وجلده بلغ مدى بعيدا. كان من المقرّر أن يحضر الحاج موسى ولده بنفسه من المشرحة، في سيارة الموتى، التي يعمل سائقها. لكن السلطات رفضت ذلك!
ألم الحاج موسى العبار وزوجته كان أولا نبأ إصابة عبد العزيز إصابة بليغة ونقله للسلمانية في 23 فبراير/شباط 2014. عبد العزيز لم يكن يجيبهما طيلة 55 يوما، كان فيها في غيبوبة. الكل كان يقول أمامهم إنه سيموت لا محالة. استشهد عبد العزيز، وخلّف يتيمين وزوجة وأبوين مفجوعين، وتحوّل الألم إلى مصيبة الفقد.
لكن الألم فجأة، أصبح ذا لون آخر، غريب جدا. كيف يكون شعورك وابنك يقتل ظلما، ثم تسلّم شهادة وفاة لا يكتب فيها أي شيء عن إصابته التي دخل بها المستشفى؟ ثم كيف يكون شعورك وأنت لا تستطيع أن تدفن ابنك مثل سائر الموتى، حتى بعد 80 يوما من وفاته؟
حوالي 4 شهور ونصف، استمرّت محنة عائلة العبّار، منذ إصابته ودخوله المستشفى، وحتى اليوم الذي صار بالإمكان فعلا أن يعامل فيه مثل بقية الموتى، ويوسّد الثرى!
زوّرت السلطات شهادة وفاته، وأرجعت سبب الوفاة إلى "تلف في الدماغ" دون أي إشارة إلى إصابته بمقذوف ناري. الحاج موسى العبار، والد الشهيد، رفض استلام شهادة الوفاة، مثلما فعلت عائلة الشهيد يوسف موالي، وعائلة الشهيد أحمد إسماعيل.
ظل والد الشهيد صابرا، ومتمسّكا بموقفه رغم الضغوط الكبيرة التي كانت تمارس عليه من أكثر من جهة، والتي وصلت إلى حد التهديد بتلفيق التهم أو بدفن ابنه دون علمه. كثيرون نصحوه بإنهاء الأمر لأن "الرسالة قد وصلت" على حد رأيهم، لكنه أبى!
عدد من الشهداء سقطوا بعد الشهيد العبار، ودفنوا! تحولت قضية العبّار إلى أسطورة، حين رأوه الناس يسلّم جثمان الشهيد علي فيصل إلى أهله في المقبرة. يعمل الحاج موسى العبّار سائقا للمشرحة، يخرج جثامين الموتى كل يوم من الثلّاجة، ويرى جثمان ابنه داخلها كل يوم، دون أن يستطيع فعل شيء!
زاره النائب السنّي المتضامن مع المعارضة أسامة التميمي، احتضن ولدي الشهيد متأثّرا "نتمنى من أهل البحرين كلهم بكل طوائفهم، أن يرون إذا ما كان ما يجري فيه أي عدل أو إنسانية". وحين خرج نبيل رجب من سجنه، كان أول بيبت يزوره هو بيت الحاج موسى العبار "أحيي فيك هذا الموقف البطولي وهذه المقاومة المدنية السلمية التي نقول بها، لأنك رفضت أن توقع أن ولدك المقتول توفي بطريقة طبيعية".
كبرت قضيّة العبّار، واستدعت إصدار بيانات من الفريق الأممي لحالات القتل خارج القانون، التابع للأمم المتحدة، وكذلك من منظمة هيومن رايتس ووتش، منظمة العفو الدولية. وحملت منظّمة بحرين ووتش قضيّته ضمن حملتها ضد تصدير كوريا الجنوبية قنابل الغاز إلى البحرين.
أحدثت قضية العبّار حالة فوران في الشارع. على مدى 3 أشهر، نظّمت الكثير من حملات الاحتجاج والتظاهرات باسمه، وانتهت بعدد من الاعتقالات والإصابات والمواجهات. كما أن مسيرات التشييع الرمزي انطلقت أكثر من مرة في كافة أرجاء البلاد.
في 2 مايو/أيار 2014، قال الزعيم الديني الشيخ عيسى قاسم في خطبة الجمعة إن السلطة "تقول إما أن تدفنوا جريمة الشهيد عبد العزيز العبار وتقبروها كإقبار جريمتها وتبرئوا السلطة براءة الذئب من دم يوسف، وإما أن يحرم الرجل المؤمن حق مواراة جسده وإقامة مراسيم الجنازة وتكون الثلاجة قبره".
اعتصم الحاج موسى العبار وعائلته أمام المشرحة، ولطالما كانوا ضيوفا على النيابة العامة، والمؤسسات الأخرى. وكانت نتيجة هذا الصبر والإصرار أن تنتدب وحدة التحقيق الخاصة التابعة للنيابة العامة طبيبا شرعيا يصدر تقريرا يثبت فيه حرفيا أن العبّار قتل بإطلاق نار على وجهه ورأسه، لكن النيابة رفضت إعطاءهم نسخة من التقرير الذي وقّعوا عليه، بعد كل فصول التزوير العلنية المستمرة.
والدة الشهيد العبّار التقت شخصيا برئيس النيابة الكلية رئيس وحدة التحقيق الخاصة نواف حمزة، لكنّه رفض إعطاءها نسخة من التقرير، بحجة أن التحقيق لم ينته! وهكذا ظل جثمان الشهيد الشاب في ثلاجة الموتى، ينتظر لحظة الحسم.
وأخيرا رضخت النيابة، وسلّمت العائلة نسخة من التقرير، في الأول من يوليو/تموز 2014.
والد العبار أمسك بورقة النيابة وضم إليه حفيديه وهو يكفكف دموعه. لم يكن يصدّق بأن هذا الكابوس انتهى، كما أنّه لم يكن يصدق أنه فقد ابنه للأبد، هو لا يعرف عن أي شعور يجب أن يعبّر!
في عمله، كسائق للمشرحة، صادفت والد العبار الكثير من المواقف المؤلمة، كان يأخذ جثة طفل صغير من أحضان والدته الثكلى، ويساعد هؤلاء العجائز الذين يأتون وحدهم من أجل موتاهم. لم يتوقع أنه سيأتي اليوم الذي يأخذ ابنه من المشرحة للمقبرة "بعد عبد العزيز، الحياة بلا طعم" كان الحاج موسى يعتبر ابنه الصديق الذي يشاركه كل شيء.
لم يكن الحاج موسى من أتى بابنه الشهيد من المشرحة بسيارته لتزفّه الجماهير اليوم في السنابس، عريسا للحرية. فجأة، صار الألم الذي في قلبه، يتحدّى كل تلك الأيام التي صبرها.
أحد الناشطين قال له إن عدد الحضور سيكون أقل إذا صار التشييع عصرا، وكان رده "من سيأتي سيشرّفنا، ومن كان لديه عذره اعتبرناه قد جاء، وهو على رأسنا". كان والد العبّار قد بثّ رسالة مصوّرة يدعو فيها الشبّان إلى عدم التصادم مع الأمن وتعريض حياتهم للخطر خلال مسيرة التشييع.
كانت السلطات تريد من هذا التلفيق والتزوير والكذب، صكّ براءة قانوني مقدّما، لإجرامها، ولموظفيها الجناة من المرتزقة، رغم أنّها لن تحكم أي مجرم فيهم أكثر من شهر في السجن! لكن الموقف انقلب عليها تماما. لم يصدر أي تصريح رسمي حول تطوّرات القضية من أي جهة كانت، بما فيها النيابة العامة. السلطة الآن تحفظ ماء وجهها بالصمت!
من أجل الكرامة، والحق، والحرية، ومن أجل دولة القانون، والعدالة، قتل الشهيد العبار، واحتجز جثمانه في ثلاجة الموتى، في قصة سيحكي عنها تاريخ الثورة طويلا. لذلك، كانت قضيّته مقياسا لحجم الصراع في البحرين، بين القبيلة الحاكمة، والأغلبية المطالبة بالتحول السياسي...
"كما انتزع والد الشهيد عبد العزيز العبار حقه في الاعتراف بأن ابنه قتل بالرصاص، شعب البحرين سينتزع حقه في التخلص من الاستبداد والاستفراد بالحكم والديكتاتورية إلى إرادة الشعب" الشيخ علي سلمان، أمين عام جمعية الوفاق. "سننتزع حقنا، فعائلة العبّار صبرت قرابة الشهرين ونحن الآن في حراكنا السياسي ثلاثة أعوام وسنصبر للعام الرابع والعاشر حتى نأخذ حقنا وننتزعه، والنظام مضطر لأن يعطينا هذا الحق".
الشهيد عبد العزيز العبّار (27 عاما)، هو ثاني شهيد يشيّع في شهر رمضان، منذ انطلاق الثورة في 14 فبراير/شباط 2011. خرج اليوم جثمانه من الثلاجة بعد حوالي 80 يوما، في أطول مدة بقاها شهيد داخل ثلاجة الموتى.
شامخة الرأس، ستتلقى أسرة العبار الفقيرة تعازي الناس فيه، بعد أن شيّع اليوم تشييعا مهيبا، ووري الثرى أخيرا، تماما مثل سائر الموتى...
هل فرحت عائلة العبار حقا أم بكت... لا أحد يمكنه أن يتصوّر!