الصراع بنسخته الأصلية: المشيخات نموذجًا
إيمان شمس الدين - 2014-06-27 - 4:07 م
إيمان شمس الدين*
المشروع الصهيو- أمريكي في المنطقة ليس مشروعًا عسكريًا فقط، بل هو مشروع متكامل أحد أذرعته عسكري، وهو لا يملك وجهًا واحدًا بل له وجوه كثيرة أحدها الإسلام القشري. فالصراع بنسخته الأصلية لم يتغير فيه شيء في التحالفات، لكن ما تغير هو الانكشاف، مع تغير وتبدل الظروف الزمكانية، بعد خطة العولمة وتحويل العالم إلى قرية صغيرة، بحيث أصبحت المعلومة سهلة المنال، وهو ما له أبعاده الإيجابية والسلبية.
فمنذ اكتشاف النفط في الخليج وحاجة الغرب وأمريكا للطاقة ولمواد الخام ولأسواق استهلاكية تتزايد، فبدأت الاستراتيجية الجديدة في رسم خارطة طريق للمنطقة، بعد تقسيم سايس بيكو، وتحويل المنطقة لدويلات تتوزع فيها أنظمة الحكم، وفق الأولويات الجغرافية والديموغرافية والثرواتية.
هذه الخارطة أسست لتحالف المال والسلطة والنفوذ، وسخرت لذلك أدوات كثيرة ومدروسة تليق بظروف كل منطقة ودولة. لكنها عمدت إلى تفريغ محتوى الفرد عقليا، وحولت مسار أولوياته واهتماماته من أولوية الكرامة التي تحققها العدالة الاجتماعية، إلى أولويات الحاجة اليومية التي هي حق بسيط للمواطن في الدولة، واستهلكت العقل الإنساني في كيفية توفير لقمة العيش، بعد أن سلطت عليه سلطات جائرة، سياستها القمع والمنع والاستحواذ وتكديس الثروات باسم خدمة الشعب.
فالدولة تتكون من السلطة (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، والشعب بما يمثله من أفراد ومؤسسات مجتمع مدني وتكتلات سياسية واجتماعية نافذة، بحيث تشكل هذه بكلها نظام الحكم وفق عقد بين الحاكم والمحكوم، تكون فيها السلطة الحاكمة موظفة في الدولة، وتستغل وجودها للقيام بمهامها التنموية والتطويرية، سواء في الرقابة والتشريع أو في التنفيذ أو في تطبيق القانون وفق نظام الكل متساو فيه أمام القانون وعلى قاعدة تحقيق العدالة. ويكون الشعب مصدرًا للسلطات، ولكن يستهدي بعقله بقواعد الإسلام الثابتة، فلا استبداد من قبل أي طرف، والثروات تكون مصدرًا للنهوض والتنوير وليست مصدرًا للتخدير وشراء الولاءات وصناعة أمجاد زائفة تطيل جلوس الحاكم على رقاب الشعب بسلطة المال والنفوذ.
لكن سايس بيكو، والذي جاء بعد سقوط الخلافة العثمانية، حمل في أحشائة بذور التفرقة، وشيدت على خارطته حكومات تم تعيينها من قبل المحتلين لتتوافق مع أهوائهم وطموحاتهم واستراتيجياتهم في المنطقة، وخاصة تلك الغنية بالنفط، والتي كانت تعيش على ثقافة الإغارات والترحال والغنائم، وكانت تهيمن عليها العادات والتقاليد بصيغة دينية قشرية بشكلها الأغلب، فالخليج حكمته القبائل ليس بعنوان العدالة، وإنما بعنوان قبائلي عَصَبي قائم على الانتماءات القبائلية والولاءات الممتدة من القبيلة إلى الأقوى مالًا ونفوذًا وسلطة. أي هي ثقافة رعوية يحكمها عقل شيخ القبيلة، الذي يشكل المأوى والحماية والقيادة للقبيلة، وهذا الشيخ يملك السلطة والنفوذ والمال، ويشتري الولاءات وفق قدرته المالية ونفوذه الأوسع، فوجد المحتل ضالته في هذا العقل المشيخي القائم على نظام الرعوية، فديموته مستمدة ليس من العقل ورقابته ونقده، بل من قدرته على شراء ولاءات الناس من خلال ما يقدمه تمننًا منه عليهم من خدمات توفر لهم متطلبات عيش متدنية من طعام وشراب واستقرار اجتماعي يحميهم من إغارات القبائل المجاورة.
قامت الدول الخليجية النفطية على نظام المشيخات، وإن كان بعضها رسم خارطة في داخل حدوده الجغرافية وداخل دائرة نفوذه وسلطته، رسم خارطة حكم تقوم على ديمقراطية شكلية، لجأ لها لا من باب القناعة وإنما من باب ظروف محيطة فرضها النافذون من التجار عليه ليصبحوا شركاء في الحكم وتقسيم الثروة. هذا الشكل الديمقراطي أراده المحتل ليقنع به بعض الشعوب، لكنه شكلًا كرّس المشيخة والعائلية وغيّب مبدأ تداول السلطة.
والمشيخات كي تستمر في بيئة محافظة على قشور الدين، حيث هذه المجتمعات تسلم زمام أمورها لحاكم يرفع الأذان ويبني المساجد، ويطبق الحدود دون ضوابط باسم الدين، ولكنه يظلم ويسرق، فقامت هذه المشيخات على تحالفات تحفظ ديمومتها في الحكم كسلطة وليس كدولة، وهناك فرق، قامت بالتحالف مع فقيه السلطة، ومع القبائل من خلال الهبات والعطايا والنسب، أي الزواج من قبائل قوية وممتدة كي ترتبط بها نسبيًا وتكسبها إلى جانبها وفق فهم القبيلة للنسب. فتشكل هرم السلطة من هذه التحالفات لتهيمن باسم الدين على مسار تفكير الناس، وباسم القبيلة وثقافتها تكتسب ولاءاتهم، وبسلطتها ونفوذها تهيمن على الثروات المالية، وبالتالي تقيم دولة شكليًا، ولكن حقيقة نظامها قائم على منطق المشيخات في القبيلة. إذًا تخدير ديني، وتعطيل العقل، وكسر للعزائم والهمم، وشراء للولاءات من ثروات الشعب باسم الهبة والعطية والمنحة.
ومع تقادم الزمن وتزايد الثروة وتكريس النظام المشيخي، باتت التحالفات الإقليمية والدولية قائمة على تحالف جديد مع القوى العالمية، التي جاءت بهذه الأنظمة وهي بقاء هذه الأنظمة في السلطة مقابل حمايتها للنفوذ الأجنبي في المنطقة عسكريًا، بحجة الدفاع عنها وحمايتها من خطر ما، كانت غالبا تروج له الدول الكبرى وتخلق هواجسه وترسم عدوًا ما في مخيلة هذه المشيخات وتروج له إعلاميا ليتحول في ذهن شعوب المنطقة المغيبة من وهم إلى حقيقة. اليوم المشروع الصهيو أمريكي هو ذاته المشروع في تلك الحقبة، مع تبدلات فقط في الظروف والمعطيات السياسية والميدانية، وأدوات هذا المشروع هي ذاتها، لكنها سابقًا كانت أدوات مخفية تحت الطاولة، تجاهر بالعداء للمشروع علنًا، وتدعمه بالمال بالخفاء.
اليوم مع الانفتاح العالمي بات المخفي علني، ولكن مع رتوش تجميلية خفيفة تختفي وراءها لتُبْقي مساحة لفقيه السلطة، تستطيع من خلالها الاستمرار في السيطرة على الجماهير. وبات الدعم للمشروع ليس فقط بالمال بل تعداه إلى الرجال والمخزون البشري المعبأ بفتاوى الجهاد المضللة للوجهة، والمزورة لشخصية العدو الحقيقي. فالسعودية على سبيل المثال كان عدوها اللدود الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، كونه كان يشكل رأس حربة في مواجهة الصهاينة بتحالفات وحدوية مع سوريا، تحت شعار جامع هو القومية العربية، فلجأ نظام آل سعود حينها لموظفيه الفقهاء ليشعوذوا فكرة القومية في ذهنية الجماهير، وليحولوها إلى مقولات كفرية بل وشركية، وكانوا كما هم اليوم في العلن يظهرون حرصهم على مصلحة الأمة وفي الخفاء هم أول المتآمرين عليها وعلى قضاياها.
فالمشروع الصهيو أمريكي اليوم ما زال يمشي في منطقتنا بأدواته القديمة ولكن تطورت الأساليب وتطورت طرق الدعم لتغير الظروف السياسية في المنطقة، خاصة بعد نجاح الثورة الإيرانية التي استطاعت قلب موازين المشروع رأسًا على عقب لتتبدل التحالفات وتتبدل أدوات الصراع. فمثلًا اليوم باتت العروبة عند النظام السعودي حاجة ومطلب ضروري لمواجهة النفوذ الإيراني، فرغم شيطنتها للقومية العربية في عهد جمال عبد الناصر، إلا أنها اليوم باتت الفكرة التي تشكل لها مخرجًا من أزمة الهوية أمام التقدم الإيراني على كافة الأصعدة.
ورغم محاربتها للإخوان المسلمين عدوها التاريخي، إلا أنها اليوم تدعم الجماعات المتشددة، رغم انتماء الجميع للمذهب السني الذي نصبت نفسها اليوم مدافعة عنهم وعن حقوقهم، أي السنة، إلا أنها حاربت الإخوان المسلمين بعدة طرق، أهمها اختراق الداخل وضرب بناه الفكرية المعتدلة وشخصيات كانت أساس في تشكيل البنية الفكرية للإخوان المسلمين كحسن البنا ومحمد عبده، وتطعيمها بأفكار سلفية مذهبية متشددة تدعم بقاء المشيخات وأنظمة الحكم، وتقوض فكرة تداول السلطة، فاستطاعت اختراق البنى الداخلية للإخوان المسلمين، وحاربتهم خارجيا من خلال اعتبار التنظيم تنظيما إرهابيًا مؤخرًا، ودعم حسني مبارك في عملياته الأمنية ضد الإخوان المسلمين، وإيصال السيسي للسلطة، الذي كان مشروطًا بالقضاء على جماعة الإخوان المسلمين العدو التاريخي لآل سعود.
وتقوم اليوم المشيخات بتصدير ثقافتها القبلية في الإغارات والديكتاتورية ومنع الشعوب من التحرر من خلال دعم الجماعات المتشددة بالمال والسلاح، فهي من جهة تقوض الحراكات الشعبية وتشيطنها لتحمي جبهتها الداخلية من أي حراك، ومن جهة هي تقدم قرابين الطاعة للمشروع الصهيو أمريكي الذي يبقيها على رأس الحكم ويمكنها من السلطة، خاصة أنه يخشى من البديل على مصالحه، فبينما يطالب بالديمقراطية في العراق وبحكومة شراكة وطنية تراه، أي الأمريكي والغربي، يغض الطرف عن حكم المشيخات وما تقوم به من تهميش لفئات اجتماعية على أساس مذهبي، وبينما يحاكم إيران على انتهاكات لحقوق الإنسان من وجهة نظره لتطبيقها أحكام إعدام كقصاص شرعي، تراه يغض الطرف عن الإعدامات الأخيرة التي أقرتها السعودية ونظام آل سعود بحق شباب جل تهمتهم الحراك السلمي المطلبي. وبينما يدمر سوريا بحجة الديكتاتورية، تراه يدعم الكيان المشيخي بالخليج، ولا يلتفت للحراك البحريني المطالب بالشراكة في السلطة كتلك المطالبات في سوريا التي تدعيها المعارضة.
فالحركات المتشددة التكفيرية اليوم هي الأداة الأنجع في الحرب بين مشروع الأمة المقاوم والمشروع الصهيو أمريكي، فإيران ومحورها المقاوم بأغلبه ينتمي للمذهب الجعفري، ورغم أنها تمارس حراكها الأممي على أصل موجود في الدستور الإيراني، وهو نصرة المستضعفين في كل مكان، دون النظر لمذهبهم، والدليل دعمها المطلق لحماس والجهاد الإسلامي ولثورة نيلسون مانديلا وللنظام السوري العلماني ولميشيل عون المسيحي، ما يعني أنها تدعم كل مقاوم شريف رافض للمشروع الصهيو أمريكي، إلا أن خيار المشروع الصهيو أمريكي مع مشيخات الخليج، كان شيطنة المحور المقاوم بمذهبته ومواجهته بجماعات متشددة أعلنت شعار الدفاع عن السنة كي تخندق المنطقة مذهبيًا، فيسهل لها الانقضاض على مشروع الرفض واللا في وجهها، بعد أن عجزت عنه في أكثر من موقع، فلجأت لشيطان المذهبة. واستخدمت المشيخات - وخاصة نظام آل سعود - في ذلك فقهاء السلطة ليكتبوا فتاواهم المذهبية التكفيرية بدماء المسلمين ويطبخوها على نار الفتنة الشاملة.
ولكن الإشكالية الحقيقية هي: بالرغم من تنامي الفكر الليبرالي في جسد الخليج العربي ووجود نخب لها ثقل علمي وفكري وثقافي، تؤمن بمبدأ تداول السلطة، وتؤمن بمبدأ الحكم الديمقراطي، بل هناك تنامٍ لكثير من الأنشطة الفكرية والمعرفية والاجتماعية في مناطق متفرقة من هذه الدول وخاصة السعودية، إلا أن الغريب جدًا أن ترضى هذه النخب وهذه الشعوب بأنظمة مشيخية حاكمة تصدر الموت والقتل والدمار لشعوب المنطقة وخاصة تلك المنتمية للمحور المقاوم، وهي تقف متفرجة، بل بعضها يطاله ظلم هذه الأنظمة ومنعها وقمعها لكنه لا يحرك ساكنًا رغم ما يملكه من علم ووعي ومعرفة؟
فسابقًا كان العذر لهذه الشعوب موجودًا، كون النظام المغلق والمنع هو الوسيلة في الحكم، لكن اليوم بعد هذا الانفتاح وهذا الكم الهائل من التكنولوجيا التي تتيح للشخص في منزله معرفة الحقيقة، وقدرة هذه الشعوب المالية على اقتناء الأجهزة الحديثة بما يمكنها أكثر من المعرفة وكشف الحقيقة، لم يعد مقبولًا أن تدفع شعوب فاتورة الدفاع عن مشروع الأمة بينما تقف شعوب أخرى متفرجة صامتة، جل ما تفعله البكاء أو الدعم بفتات المال، بينما لا تحرك ساكنًا ضد أنظمتها الحاكمة التي تستخدم ثرواتها ومقدراتها في قتل تلك الشعوب ووأد مشروع الأمة المقاوم وهدر دماء الشهداء التي سقطت على طريق الحرية والتحرير.
وبعد الثورات التي حصلت، لا نقدم عذرًا لشعب، فالشعوب اليوم باتت قادرة على أن تقول "لا" وأن تدفع باتجاه شراكتها في الحكم ومصدريتها لكل السلطات ، لكنها تحتاج أن تقدم أولوية الكرامة على أولوية العيش برفاهية وفخامة، فلا حرية دون دماء شهداء، ولا حرية لا تعبد بالألم والبذل والتضحية.
فأنا أعتبر هذه الشعوب شريكة في الجريمة ما لم تتحرك رافضة ما يحدث، ومطالبة بالتغيير، وداعمة في أوساطها لمبدأ تداول السلطة والشراكة في الحكم، حتى لو قدمت من وجودها لأجل ذلك، لأن هناك شعوب تقدم من وجودها لأجل حفظ كيان الأمة والدفاع عن مقدساتها وحمايتها من المشروع الصهيوأمريكي ، وعلى باقي الشعوب أن تدعم جهاد هذه الشعوب بالثورة على أنظمة الحكم في الخليج لتمنعها من المضي في عمالتها وتآمرها ضد الأمة ومشروعها التحرري.
فالمشروع الصهيو أمريكي ما زال بنسخته الأصلية، وان اختلفت المنهجيات في تطبيقه، لكن المشيخات نموذج صارخ في إثبات استمراريتة وديمومة المشروع الاستعماري في قبال مشروع الأمة التحرري، فسابقًا كنا نتحدث عن مشيخات وأنظمة حاكمة رعوية ونعذر الشعوب لقلة حيلتها، لكن اليوم لا يمكن القبول الحديث عن مشيخات مستقلة وغض الطرف عن دور الشعوب المحكومة لتلك المشيخات في التغيير والمحاسبة ووأد استراتيجيات تلك المشيخات.
* كاتبة كويتية