في محاولة سوسيولوجية: ما الذي يجري في البحرين صراع طائفي أم صراع طبقي ؟
يوسف مكي - 2013-07-14 - 12:55 ص
يوسف مكي*
منذ بداية الاصطفاف الطائفي بعد أسبوع من حركة 14 فبراير 2011، هذا الاصطفاف الذي تمثل في حشود فزعة الفاتح في 22 فبراير 2011، تحول الصراع، بقدرة النظام في البحرين، من صراع سياسي بين الشعب البحريني بغالبيته ضد النظام، إلى صراع طائفي بين الشيعة والسنة. وقد نجح النظام إلى حد كبير في ذلك.
هذا الوضع، وهذا التحريف والتحويل للصراع انطلى على كثيرين، حتى ممن كانوا مع حركة 14 في بداياتها. ومع مرور الوقت تحول النقاش لديهم إلى كيف نعيد اللحمة الوطنية إلى سابق عهدها، وكيف يلتئم الشيعة والسنة، وليس كيف ينتزع الشعب البحريني حريته وحقوقه المؤجلة من نظام الاستبداد. وذلك في تجاهل واضح للأسباب الحقيقية للثورة.
لا شك أن الاصطفاف الطائفي في البحرين هو واقع قائم، ولا يمكن لأحد أن ينكره، ومع ذلك ليس هذا الاصفاف هو المسألة الجوهرية في الصراع. بمعنى آخر، إن هذا الصراع، وإنْ تمظهر في شكل طائفي، فهو ليس طائفيًا بأي حال من الأحوال، بل هو صراع سياسي، أي صراع طبقي بين غالبية شعب البحرين (أيا يكن دين أو مذهب هؤلاء المنتفضين) من جهة، والنظام الخليفي من جهة أخرى، يحاول هذا النظام أن يغلّب فيه المظاهر الطائفية على الجذور الطبقية/ الاجتماعية للصراع، ليتمكن من التضليل على مايجري فعلًا، والقفز على المسألة السياسية، ويتمكن من إدارة لعبة الصراع محليًا وإقليميًا ودوليًا على هواه.
وإذا كان الأمركذلك، فإنه لا يكفي أن نقول إن النظام في البحرين استطاع لوحده أن يجعل من الصراع السياسي/الطبقي صراعًا طائفيًا، إنما توجد عوامل أخرى ذات علاقة بالبنية الاجتماعية وبالمواقع الطبقية قربًا أو بعدًا لكلا الطائفتين من هذا الثلاثي السحري -الثروة والسلطة والأمن -.
ولأن الطائفة السنية تحظى بقدر كبير من المواقع والامتيازات من الثروة والسلطة والأمن، وسواء حصل ذلك بكفاءة الطائفة أو بفعل سياسات النظام التمييزية، فمن الطبيعي أن تكون ردة فعل الطائفة السنية معادية لأي حراك من شأنه أن يحد من تلك الامتيازات والمواقع، ويلزمها التوافق والاصطفاف مع سياسات النظام، التي تكرس تلك الامتيازات وتحافظ على تلك المواقع.
وهنا في مثل هذه الحال يتداخل الوضع الطبقي مع الوضع الطائفي، بحيث يغطي هذاالأخير على الأول وهو الجوهري، ويظهر موقف الطائفة السنية وكأنه كموقف طائفة ضد طائفة أخرى تريد أن تفرض عليها قناعاتها الدينية/ المذهبية في عملية تضليلية كبيرة يقودها قياديو الطائفة السنية، للأسف الشديد، مدعومين بطبيعة الحال من قبل شخوص النظام وسياسة الشحن الطائفي.
ولكن ذلك لا يكفي أن نقول إن النظام استطاع أن يجند الطائفة السنية لصالحه، إنمابالإضافة إلى ذلك، فإن الطائفة السنية بحكم مصالحها وامتيازاتها الطبقية أقامت تحالفاتها مع النظام وبوعي، مستشعرة بأن التغيير الذي ينشده المكون الآخر، والذي في غالبيته ينتمي للطائفة الشيعية، سيحد من تلك الامتيازات، وسينهي زواج المسيار الطويل بين النظام والطائفة السنية، فكان الرد المناسب هذه الوقفة المفزوعة وغير المبدئية للطائفة السنية، المعروفة بفزعة الفاتح في حشد الفاتح منذ 22 فبراير 2011 وما تلاه، الرافضة لأي تغيير منذ ذلك الوقت وحتى الآن، لا بل تبرير ما يقوم به النظام من انتهاكات يندى لها الجبين ويخجل منها الضمير تجاه المكون الآخر، أعني الطائفة الشيعية، بل المطالبة بتغليظ العقوبات والإجراءات القمعية والذهاب أبعد من النظام في ذلك. وإظهار الصراع السياسي وكأنه صراع سني شيعي، في حين أن الحقيقة الطبقية هي غير ذلك.
فالنظام لم يجبر الطائفة السنية على أن تتخذ هذه المواقف الأيديولوجية والسياسية، التي هي طبقية بالتأكيد، ولكن في لبوس مذهبي أو هكذا تتجلى –وهذه مشكلة من مشاكل العالم الثالث أو المجتمعات المنقسمة- ولكن الطائفة السنية نفسها شعرت بأن أي إصلاح سياسي حقيقي سيحد من امتيازاتها وأوضاعها الطبقية المريحة، وسهولة اقتسام المغانم مع النظام، والتي تكرست على امتداد العقد الأول من هذا القرن، فمن الطبيعي أن يكون هذا موقفها، حفاظًا على موقعها، ومن الطبيعي أن يجد فيها النظام ضالته، للحد من استحقاقات التغيير السياسي الجذري الذي تطالب به الطائفة الأخرى المتضررة منسياسات النظام.
هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإن الطائفة الشيعية في حراكها لم تكن مطالبها طائفية، إنما كانت مطالب سياسية عامة، ستعم خيراتها، في حال تحققها، على الجميع. ولاشك أن الطائفة الشيعية، في حال إجراء تغييرات سياسية جذرية، ستكون المستفيد الأول، لأنه أيضًا، في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية والتمييز الذي يمارسه الحكم، بالتعاون مع الطائفة السنية كرديف، فإن الطائفة الشيعية هي المتضرر الأول.
وأيضًا لم تتحرك الطائفة الشيعية لأنها شيعية ضد الطائفة السنية لأنها سنية، ولا ضد النظام لأنه سني، إنما تحركت وتتحرك ضد النظام السياسي، الممثل في عائلة آل خليفة، وضد مظالمه التاريخية كحركة سياسية. أما وقوف الطائفة السنية إلى جانب النظام، فهذه مشكلتها وليست مشكلة الطائفة الشيعية، ولا مشكلة المطالبين بالتغيير الجذري، وهي كذلك مشكلة سياسية وليست طائفية.
أما أن تكون الحركة الثورية شيعية، والغالبية شيعية، فهذا هو الواقع، كما أن ذلك لا يغير من حقيقة جوهر الصراع السياسي، الذي هو في التحليل النهائي طبقي، حتى ولو تحرك الشيعة لوحدهم، لأنهم الأكثر تضررًا بالقياس بالطائفة السنية، وحتى لو تطابقت الطبقة مع الطائفة، فإن ذلك لا يجعل من الصراع القائم صراعًا طائفيا، وإلا ما معنى أن يقف السنة إلى جانب النظام والمزاودة عليه في سياساته القمعية تجاه إخوانهم في الوطن، لا بل والشماتة في معظم الأحيان. بتقديرنا لا يوجد جواب غير أن الطائفة السنية تحاول جاهدة، ومن ورائها النظام، الحفاظ قدر الإمكان على مصالحها الطبقية المتدثرة بلباس الطائفية، أو المتطابقة مع بنية الطائفة.
ففي وضع مثل البحرين، يكاد يتطابق الصراع الطبقي مع الطيف الطائفي، أي أن الطائفة هي كذلك وهي طبقة في الوقت عينه، لأسباب تاريخية تعود إلى لحظة الاستيلاء الخليفي على البحرين سنة 1782، والصراع الطبقي عادة يكون بين طبقات تكون بنيتها السوسيولوجية والدينية واضحة، بين طبقات متمصلحة من تأبيد الوضع القائم، وهي المستفيدة من هذا الوضع، وطبقات متضررة وتبحث عن سبل تغييره.
أما في البحرين، فيوجد تداخل كبير بين حدود الطائفة والمذهب وحدود الطبقة، ولإخفاء البعد الطبقي السوسيولوجي الحقيقي يتم التمويه بالغشاوة الطائفية، وتغييب ماهو حقيقي وجوهري في الصراع السياسي الدائر في البحرين، لإظهاره وكأنه صراع طوائف، والنظام الحاكم يقوم بدور الحَكَم بين هذه الطوائف، أي تحريف الصراع عن محتواه الحقيقي الطبقي، وإبراز شكله الطائفي لأسباب تتعلق بطبيعة وبنية الحكم القبلي في هذه البلاد، ومصلحة الطائفة السنية المتحالفة معه.
نخلص إلى القول إن الطائفة السنية، وفي ظل المعطيات الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية، التي تحظى بها من قبل النظام، فهي بقدر ما تمثل طائفة، تمثل طبقة مستفيدة من بقاء الوضع على ما هو عليه، وبالتالي الدفاع عن النظام باستماتة، وهو مايجد فيه النظام بعض المَدَد لاستدامة استبداده، ورفض الاستحقاقات السياسية الكبرى.
وبالمقابل، فإن الطائفة الشيعية، وفي ظل الأوضاع التاريخية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية الظالمة من قبل النظام، فهي بقدر ما تمثل طائفة دينية فهي تمثل طبقة بالمعنى السوسيولوجي متضررة من بقاء هذا الوضع، ولا بد من تغييره، حتى في ظلال خذلان من قبل الشريك الآخر في الوطن. والشيء المهم بالنسبة للمستفيدين من الحفاظ على مصالحهم لم يعد الموضوع شراكة وطنية مع الآخر الطائفي/ الطبقي ، إنما مقدار المغانم والأسلاب والفوائد، ومن بعد ذلك الطوفان.
هذا هو الصراع في البحرين كما يبدو لنا، صراع سياسي/ طبقي اجتماعي استطاع النظام، وبدعم من الطائفة السنية أن يتحايل عليه ليظهره صراعًا طائفيًا بين الشيعة والسنة، وقد استمرأ السنة ذلك، وكلما تطلب الموقف إبراز هذا الجانب، استدعى النظام التحشيد الطائفي من خلال التقاء المصالح الطبقية لكل من النظام والطائفة السنية، للأسف الشديد.
ما يجري في البحرين باختصار شديد هو صراع طبقي/ سياسي معقد يتمظهر في شكل صراع طائفي، وتكاد الطبقات تتطابق مع الطوائف، مما يخفي الأسباب الحقيقية السوسيولوجية للصراع، ويبرز الأسباب الطائفية العرضية/ المرضية للصراع.
*باحث بحريني في علم الاجتماع.